"العملة الضعيفة هي علامة على وهن الاقتصاد، والذي هو علامة على وهن الأمة برمتها".. كانت العبارة السابقة ضمن سياق أوسع يناقش القدرات العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة في كتاب "أزمة الدولار" لرائد الأعمال الأمريكي "رووس بيرو" والسيناتور السابق "بول سايمون".
في الواقع إذا كانت لقوة العملة المحلية دلالة على شيء، فهو الانتعاش المتسارع لاقتصاد البلاد، تلك الفترة التي يصحبها ارتفاعًا في معدلات التوظيف وزيادة في الأجور والإنفاق الاستهلاكي الذي يدفع الأسعار إلى الارتفاع سريعًا، وبالتالي تضطر البنوك المركزية إلى زيادة الفائدة بغرض تقويض التضخم.
زيادة أسعار الفائدة يكون بهدف التقليل من المعروض النقدي لتهدئة الأسعار، ويترتب عليه عادة تدفق الأموال الساخنة إلى الاقتصاد والمزيد من الطلب على العملة المحلية وبالتالي ارتفاع قيمتها، مع الأخذ في الاعتبار أن قوة الاقتصاد في حد ذاته تزيد الثقة بحيازة عملته.
وبالطبع هناك استثناءات لهذه القاعدة، فأحيانًا قد تتباطأ الصادرات ويزداد التضخم، ما يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة المحلية، علمًا بأن أسعار الصرف الحرة تتحرك وفقًا لمعنويات السوق، التي عادة ما يكون ارتباطها المباشر بالأداء الاقتصادي ضعيفًا.
لكن في ظروف طبيعية تقليدية، قد يعني تزايد قوة الاقتصاد، نمو الإنتاجية والتنافسية على المدى الطويل، ما يؤدي إلى زيادة الطلب الخارجي على منتجات البلد وعلى عملتها بالتبعية، فهل هذه هي القاعدة دائمًا؟ وهل كان كاتبا "أزمة الدولار" على حق في ادعائهما؟
عملات ضعيفة في اقتصادات رئيسية
- وفقًا لما سبق، قد يكون من المفهوم سر تداعي قيمة العملة الفنزويلية التي فقدت 99.99% من قيمتها أمام الدولار خلال السنوات القليلة الماضية، كنتيجة للتدهور الاقتصادي السريع في البلاد وخروج التضخم عن نطاق السيطرة.
- من المفهوم أيضًا أن عملات اقتصادات قوية مثل الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي والجنيه الإسترليني البريطاني والفرنك السويسري، جميعها متقاربة للغاية من حيث سعر الصرف، ولا يتجاوز فارق القيمة بينها الواحد الصحيح وفقًا للقيمة الدولارية.
- لكن الغريب هو أن بعض الاقتصادات مثل اليابان أو كوريا الجنوبية على سبيل المثال، تمتلك عملات ضعيفة للغاية، فالدولار الواحد يعادل أكثر من 100 ين ياباني، وأكثر من ألف وون كوري جنوبي، وذلك رغم أن هذين الاقتصادين من بين الأكبر عالميًا.
- ليس ذلك فحسب، فالأداء التجاري والاستثماري للبلدين يضمن لهما تدفقات قوية من النقد، وفي أوائل أبريل 2019، كشفت الحكومة اليابانية عن تحقيق الحساب الجاري للبلاد فائضًا للشهر السادس والخمسين على التوالي حيث سجل ما قدره 24 مليار دولار في فبراير.
- فيما سجل الحساب الجاري لكوريا الجنوبية فائضًا للعام الحادي والعشرين على التوالي في 2018، بفضل بلوغ الصادرات مستويات قياسية وتحسن أداء القطاع الخدمي، وبلغ الفائض ما قيمته 74.41 مليار دولار العام الماضي، بحسب بيانات البنك المركزي للبلاد.
إذن ضعف العملة ليس مؤشرًا لضعف الاقتصاد؟
- الأموال حالها كحال السلع والخدمات، تُحدد قيمتها حسب الطلب عليها، وتتأثر بمجموعة من العوامل على رأسها معدلات التضخم (يظل ضمن نطاق 1% في اليابان وكوريا الجنوبية(، والتي تعزز قيمة العملة المحلية في حال انخفاضها وتؤدي إلى تآكلها إذا ارتفعت.
- هناك أيضًا أسعار الفائدة (سالبة في اليابان، ودون 2% في كوريا الجنوبية) كلما زادت عززت من قيمة العملة، والعكس الصحيح، ويلعب الحساب الجاري أيضًا دورًا مهمًا في تحديد قيمة العملة، بالإضافة إلى ديون الحكومة، والشروط التجارية، بحسب "كومبير رميت" للخدمات المالية.
- تجاوز سعر صرف عملة ما لدولار واحد يعني أنها أقوى من نظيرتها الأمريكية، أما كونها أقل فيعني أنها أضعف من الورقة الخضراء، وبالنسبة للمثال الذي نناقشه هنا (اليابان وكوريا) فإن عملتيهما تبدوان ضعيفتان للغاية في سوق الصرف العالمي.
- في الأساس تقاس قوة الاقتصاد وفق مؤشرات مختلفة، أبرزها هو الناتج المحلي الإجمالي الذي يقيس حجم النشاط الاقتصادي داخل البلاد، ويعكس القيمة النقدية النهائية لجميع السلع والخدمات المنتجة داخله، ويعتبر المقياس الأكثر شمولية لقوة الاقتصاد، بحسب "ناشونال إنتريست" الهندية.
- اليابان هي صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، ويقترب حجمه من خمسة تريليونات دولار وفقًا لمؤشر الناتج المحلي الإجمالي، فيما يأتي اقتصاد كوريا الجنوبية في المرتبة الحادية عشرة عالميًا بنحو تريليون ونصف التريليون دولار.
- لا شك في أن العملة القوية قد تكون مؤشرًا لقوة الاقتصاد وفقًا لما استعرضناه بالأعلى، لكن المثالين الياباني والكوري الجنوبي يدحضان بما لا يدع مجالًا للشك حُجة "بيرو" و"سايمون" التي تربط بين ضعف الأمم وضعف قيمة عملاتها.
أسباب تاريخية وراء فجوة القيمة
- استخدمت اليابان عملة الين للمرة الأولى عام 1872 في إطار خططها لتحديث النظام النقدي، وارتبطت قيمتها في البداية بالذهب، لكن انهارت بعد هزيمة البلاد في الحرب العالمية الثانية، وتعرضها للهجوم النووي المدمر من قبل الولايات المتحدة، بحسب موقع "كارنسي هيستوري".
- في عام 1949، وفي إطار نظام "بريتون وودز" وبهدف تحقيق الاستقرار لسعر صرف العملة اليابانية، تم ربطها بالدولار، وتحديد قيمتها عند 360 ينًا للدولار الواحد، وظلت ثابتة عند هذا المستوى إلى أن حانت صدمة "نيكسون"، عندما أنهت الولايات المتحدة ربط عملتها بالذهب.
- بحلول السبعينيات، سُمح بتعويم العملة اليابانية فقفزت إلى 271 ينًا للدولار الواحد، لكن ارتفاع أسعار النفط خلال منتصف هذا العقد تسبب في خفضها إلى النطاق 290 و300 ين للدولار خلال عامي 1974 و1976.
- بيد أن الفائضات التجارية التي حققتها اليابان دفعت عملتها للارتفاع إلى مستوى 211 ينًا للدولار الواحد بحلول أواخر السبعينيات، وفي عام 1985 أدى توقيع الدول الكبرى على اتفاقية "بلازا" إلى تخفيف المزيد من الضغوط على الين ورفع قيمته سريعًا.
- عقب هذه الاتفاقية تحركت العملة اليابانية إلى مستوى 128 ينًا للدولار الواحد في أواخر الثمانينيات قبل أن تبلغ 123 ينًا عام 1992، ولامست مستوى 100 ين في 2016، وفقًا لبيانات "بلومبرج" (تداولت قرب 110 ينات للدولار الواحد في أوائل أبريل 2019).
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}