في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول 1998 عقد بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك برئاسة "ويليام ماكدونو" اجتماعاً سرياً غير مسبوق ضم رؤساء أكبر البنوك في وول ستريت، في محاولة لإقناعهم بتمويل خطة إنقاذ بقيمة 3.6 مليار دولار لصندوق تحوط متعثر.
صندوق اقترض مليارات الدولارات من أجل المراهنة على مجموعة من الأوراق المالية عالية الخطورة، قبل أن يذهب السوق في الاتجاه المعاكس وتضيع هذه المليارات بين عشية وضحاها، ويخسر الصندوق معظم أمواله.
وخوفاً من أن يؤدي انهياره إلى انهيار السوق بالكامل تتدخل الحكومة الأمريكية لإنقاذه في آخر لحظة.
نتحدث هنا عن صندوق التحوط الأمريكي "لونج تيرم كابيتال مانجمنت" (LTCM) الذي كان انهياره قبل أكثر من 20 عاماً بمثابة صدمة غير متوقعة لمستثمري "وول ستريت" الذين كان لدى الكثيرين منهم ثقة تامة بالنماذج المالية المعقدة التي كان يدار الصندوق على أساسها.
بمجرد أن تم الكشف عن خطة الإنقاذ، بدأ الجميع يتساءل حول السبب الذي يدفع البنوك المستقلة إلى التكاتف معاً من أجل إنقاذ صندوق مملوك للقطاع الخاص. والإجابة المختصرة لهذا التساؤل هي أن البنوك كانت تخشى من أن يؤدي انهيار ذلك الصندوق إلى زعزعة استقرار السوق بالكامل.
جائزتا "نوبل"
كان "LTCM" هو أشهر صندوق تحوط في وول ستريت خلال التسعينيات، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى السمعة الرفيعة التي كان يتمتع بها القائمون على إدارته، والذين كان من بينهم الاقتصاديان "ميرون سكولز" و"روبرت ميرتون" الحائزان جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية في عام 1997.
10 ملايين دولار كانت هي الحد الأدنى للاستثمار في هذا الصندوق. كما لم يسمح للمستثمرين بسحب أموالهم قبل مضي ثلاث سنوات، أو حتى السؤال حول طبيعة الاستثمارات التي يقوم بها الصندوق، وعلى الرغم من هذه القيود شاركت أعداد كبيرة من المستثمرين في الصندوق، بما يقترب مجموعه من 126 مليار دولار.
في سنواته الأربع الأولى، كان الصندوق موضع حسد وول ستريت، حيث حقق خلالها أرباحاً تجاوزت 40%، وذلك بفضل النماذج الرياضية الحاسوبية التي بناها عباقرة نوبل، والتي بدا أنها لا تشوبها شائبة.
وخلال تلك الفترة تضاعف رأس المال 4 مرات، ولم يسجل الصندوق أي خسارة في أي ربع.
حقق الصندوق أرباحاً سنوية مذهلة، بلغت 42.8% في عام 1995 و40.8% في عام 1996. وفي عام 1997 نجح "LTCM" في التحوط ضد المخاطر المصاحبة للأزمة المالية الآسيوية، قبل أن يوزع على مستثمريه أرباحاً نسبتها 17.1% خلال ذلك العام.
رسوم الإدارة الهائلة التي حصل عليها مديرو الصندوق جعلتهم فاحشي الثراء في أقل من عامين.
ومن الطريف أن بعض مستثمري الصندوق غضبوا بشدة بعد أن تم إجبارهم من قبل الإدارة على أخذ أموالهم من الصندوق في عام 1997. ولكن لم يمر الكثير قبل أن يدرك هؤلاء أنهم كانوا محظوظين للغاية.
بداية السقوط .. اختفاء السيولة
في صيف عام 1998 شهدت ثروات الصندوق تراجعاً مثيراً. ففي تطور مفاجئ ومرعب دخلت أسواق السندات في متاهة وضعت مقرضي الصندوق في أزمة على خلفية أزمة الديون السيادية الروسية التي فشل الصندوق في توقعها أو التحوط ضدها.
في أوائل عام 1998 بدأ "LTCM" في استخدام عقود خيارات لبيع كميات كبيرة من الأسهم على المكشوف، وذلك استناداً إلى توقعات نماذجه الحاسوبية التي تشير إلى أن الأسواق ستصبح أكثر كفاءة وسلاسة وأقل تقلباً مع مرور الوقت.
وراهن الصندوق بشدة على أسهم لم تكن تحظى بأي شعبية بين المستثمرين حتى في ظل أفضل حالات السوق.
المراكز التي اتخذها الصندوق في هذه الأسهم كان يتم إجراء عملية المقاصة لها بشكل يومي، لذلك أصبح الصندوق عرضة للخسائر قصيرة الأجل. ومن خلال وضع نفسه تحت رحمة التقلبات قصيرة الأجل تخلى الصندوق عن أي ميزة تكمن في نماذجه الحاسوبية.
بدأت المشكلة عندما قررت البنوك البدء في بيع حيازاتها من السندات الخطرة، والتي كانت تشكل الجزء الأكبر من محفظة الصندوق، وهو ما أدى إلى ارتفاع حجم العائد على تلك السندات. ومع استمرار المشاكل في آسيا بدأ المستثمرون حول العالم بالهروب من الاستثمارات الخطرة ناحية السندات الأكثر أمانًا.
في ذلك الوقت، حاول "LTCM" التعاطي مع الأزمة عن طريق الرهان بشدة على روسيا. لكن روسيا عجزت عن سداد ديونها بعد تعرضها لانهيار مالي. وسرعان ما انتشرت تبعات الأزمة في جميع أنحاء العالم لتتراجع الأسواق، ويهرب المستثمرون من المخاطر في عمليات بيع واسعة النطاق.
كان الصندوق يخسر ملايين الدولارات كل دقيقة. فقد كانت الخسائر سريعة وواسعة النطاق وغير متوقعة على الإطلاق. وبحلول أغسطس/آب 1998، انخفضت القيمة السوقية لحيازات "LTCM" من الأسهم من 4.67 مليار دولار إلى 2.9 مليار دولار، وظلت تتقلص بسرعة كبيرة.
أراد الصندوق تصفية مراكزه، ولكنه لم يجد أي مشترين، إذ اختفت السيولة فجأة من الأسواق، وخصوصاً بعد انسحاب كبار مستثمري وول ستريت عقب إدراكهم أنهم كانوا مفرطين في الإقراض والتوسع، لتبدأ جميع البنوك في تشديد شروط الائتمان لجميع صناديق التحوط.
في ظل إحجام البنوك عن إقراضها، اضطرت صناديق التحوط إلى بيع جزء من أصولها للحصول على سيولة. ولم يكن "LTCM" استثناء.
خسارة 550 مليون دولار يوميا
فجأة أصبحت نسبة الدين إلى حقوق الملكية في "LTCM" مرتفعة بشكل خطير، وهو ما دفع الصندوق للبدء في البحث عن مليار دولار من الاستثمارات الجديدة، ولكنه فشل في ذلك.
والمثير للسخرية، أن الصندوق قام خلال تلك الفترة بالتوسل حرفياً للبنوك للحصول على تسهيلات ائتمانية، وهي ذات البنوك التي كان يتعامل معها الصندوق بغطرسة في الماضي. ولكنه في النهاية لم يحصل ولو على دولار واحد من تلك البنوك.
وهذا ملفت جداً للنظر لأنه قبل انهياره بعدة أشهر فقط، كانت البنوك تتسابق على إقراض الصندوق، حيث قام ما يقرب من 55 بنكاً من توفير التمويل له بأفضل شروط ممكنة.
كانت استراتيجية الصندوق تتركز على فكرة أن الأسواق يمكن نمذجتها. وعلى هذا الأساس أشارت حسابات الصندوق في أغسطس/آب 1998 إلى أن القيمة المعرضة للخطر يومياً -أي إجمالي ما يمكن أن يخسره الصندوق في اليوم الواحد- تساوي 35 مليون دولار فقط. ولكن في نفس الشهر، كان الصندوق يخسر 550 مليون دولار في اليوم الواحد.
كيف شطحت حسابات الصندوق بعيداً بهذا الشكل؟ ببساطة، كانت إدارة الصندوق تؤمن بأن "المخاطر" دالة على حركة السوق المحتملة، بناءً على بيانات السوق التاريخية. ولكن هذا غير صحيح، لأن التاريخ لا يمكن أبداً أن يكون دليلا دقيقا.
كان مفتاح استراتيجية "LTCM" هو نماذجها الرياضية التي حاولت التنبؤ بكيفية تصرف السوق. فقد كانت إدارة الصندوق التي تضم كفاءات وعقليات فذة في مجالي التمويل والاستثمار واثقة جداً بأنها قادرة على التنبؤ باحتمالات الخسارة والتحوط ضدها، مما دفعهم للاعتقاد بأنهم أزالوا الخطر.
لكن مشكلة هذه النماذج هي أنها افترضت أن الأسواق فعالة وعقلانية في جميع الأوقات، وتصحح نفسها دائماً. وتحت سطوة ما تحققه من أرباح هائلة تجاهلت إدارة الصندوق التحذيرات المشيرة إلى وجود خلل بهذه النماذج، وأن الرافعة المالية الكبيرة التي يعتمد عليها الصندوق ستضعه في خطر ماحق إذا أصبحت الأسواق غير سائلة كما يحدث دائماً في حالات الذعر.
حتى العباقرة!
سخرت إدارة الصندوق من فكرة أن المستثمرين من الممكن يتصرفوا بشكل غير عقلاني على نحو جماعي، وهو ما دفع البعض في وول ستريت لاتهام مديري "LTCM" بالغطرسة. وفي واقع الأمر كان القائمون على إدارة الصندوق والذين كانوا نجوما في المجال يعتقدون أنهم أكثر ذكاءً من كل المشاركين في السوق.
بعد فوات الآوان تمكن "LTCM" من رؤية الخلل الصارخ الموجود بنموذجه الرياضي الذي تتركز عليه استراتيجيته الاستثمارية. ففي خلال الأزمة تحكم العاطفة وليس المنطق تصرفات المتداولين. ببساطة تجاهل "LTCM" تأثير العامل البشري ولم يأخذه قط في الحسبان.
لإنقاذ النظام المصرفي الأمريكي من الانهيار، أقنع رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك 15 بنكاً بضخ ما مجموعه 3.5 مليار دولار في مقابل 90% من ملكية الصندوق الذي كان طرفاً في عقود مشتقات بقيمة إجمالية تقترب من تريليون دولار.
لم يكن هناك سوى خيارين: إما ترك الصندوق لمصيره وهو ما يعني اندلاع أزمة مالية عالمية، وإما التعاون من أجل إنقاذه ووضع حدٍّ للأزمة. أعطى الفيدرالي الحاضرين يوماً واحداً كمهلة لاتخاذ قرارهم، وقبل أن ينتهي اليوم وافق كل بنك على دفع 300 مليون دولار. وفي غضون عدة أسابيع عاد الهدوء وتم تجاوز الأزمة.
في أعقاب انهيار "LTCM" أدرك من في "وول ستريت" أنه حتى النماذج الرياضية التي صممها العباقرة كانت عرضة للخطر ولأوجه عدم اليقين التي تصيب دائماً كل التوقعات البشرية.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}