طوال القرن العشرين، كان الاتجاه السياسي المسيطر في ذلك الوقت في أنحاء متفرقة حول العالم يميل إلى التأميم كخيار اقتصادي. ففي جميع بلدان العالم تقريباً كانت الحكومات تضطلع بالجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي، وهو ما جعلها المساهم الأكبر في الدخل القومي.
لكن خلال الأربعين عاماً الماضية، وتحديداً منذ مطلع الثمانينيات، بدأت الكثير من الاقتصادات المخطط لها مركزياً في التحول ناحية نموذج اقتصاد السوق. وطوال هذه الفترة، شاهدنا نجاح بعض تجارب الخصخصة وفشل أخرى. ومؤيدو الخصخصة من ناحية يروجون للتجارب الناجحة، في حين يركز معارضوها على التجارب الفاشلة.
ولكن السؤال المنطقي الذي يجب أن يبحث الفريقان عن إجابة له هو: لماذا نجح مَن نجح؟ وفشل مَن فشل؟
النموذج
في كثير من دول العالم، توجد هناك مشاريع بنية تحتية رابحة ومدارة بشكل جيد للغاية دون أي تدخل حكومي يذكر. فإذا قارنت على سبيل المثال بين سكك حديد طوكيو المتداولة أسهمها بالبورصة وبين السكك الحديدية الأمريكية المملوكة للحكومة، فستجد أن الكفة تميل بشكل واضح لصالح الأولى، وذلك بحسب ما ذكره "داج ديتر" في كتابه "الثروة العامة للأمم" الصادر في عام 2015.
طوكيو بتعدادها السكاني البالغ حوالي 35 مليون نسمة تعد واحدة من أكبر المدن الرئيسية في العالم. ورغم أن هذه الكثافة السكانية الضخمة تجعل الفوضى المرورية شيئًا منطقياً أو متوقعاً إلا أن هذا ليس هو الحال في العاصمة اليابانية، حيث تتحرك هذه الملايين يومياً بسلاسة عبر وسائل النقل العام.
تمتلك اليابان شبكة السكك الحديدية الأكثر كفاءة في العالم. فعلى سبيل المثال لم يسجل خط السكك الحديدية فائقة السرعة "توكايدو- شينكانسن" الواصل بين مدينتي طوكيو وأوساكا أي حادث تصادم أو انحراف طوال ما يقرب من 50 عاماً. في حين أن متوسط تأخيره لا يتجاوز الدقيقة الواحدة.
بعد الحرب العالمية الثانية، وبينما اتجه الكثير من الدول في أوروبا وأمريكا الشمالية ناحية تأميم خطوط السكك الحديدية ووسائل النقل العام، التزمت اليابان بالمسار الذي رسمته لنفسها قبل الحرب، ولم تقترب من الشركات الخاصة العاملة بمجال النقل.
وأثبتت الأيام، أن السكك الحديدية الخاصة (على الأقل في حالة اليابان) ربما تكون أكثر كفاءة من تلك التي تديرها الدولة. وهذا ما دفع الحكومة اليابانية لخصخصة شركة السكك الحديدية الوطنية في عام 1987 وتقسيمها إلى ثلاث شركات هي "شرق اليابان للسكك الحديدية" و"وسط اليابان للسكك الحديدية" و"جنوب اليابان للسكك الحديدية".
خطة "تاتشر" .. ثورة فرضها الواقع
رئيسة الوزراء البريطانية "مارجريت تاتشر" التي يصفها كثيرون بأنها أم الخصخصة بدأت طريقها الثوري عندما انتخبت في عام 1979 لتواجه اقتصادا متهالكا وأصولا عامة غارقة في مستنقع سوء الإدارة. ولم يؤثر برنامج الخصخصة الذي قادته المرأة الحديدية على العالم الغربي فحسب بل أثر على العالم بالكامل.
ففي سعيها لإنقاذ اقتصاد البلاد من الخراب قامت "تاتشر" بخصخصة الكثير من الصناعات المؤممة في المملكة المتحدة والتي كانت تشكل في ذلك الوقت حوالي 10% من الاقتصاد البريطاني وتستهلك 14% من إجمالي رأس المال الاستثماري، في حين أن معدل العائد على هذا الكم الهائل من رأس المال كان يتراوح ما بين الصفر و2%.
كانت الإدارة الحكومية لهذه الصناعات ضعيفة ومخيبة للآمال، ولم يكن هناك أي نوع من خدمة العملاء، في حين كانت علاقات العمل بين الموظفين سيئة. ولكن موجة الخصخصة التي اجتاحت هذه الصناعات في العقدين التاليين أسهمت في تحويل هذه الكيانات من عبء يثقل كاهل الاقتصاد إلى قوة دافعة كان لها آثار إيجابية على الحياة العامة وسوق الأسهم والمستهلكين.
لكن في المقابل يشير العديد من النقاد إلى أن الخصخصة لا تؤدي إلا إلى تحويل الثروة العامة إلى أيد خاصة، وهو ما يؤدي إلى عواقب وخيمة، بينما ينتقد آخرون ضعف الضوابط التنظيمية في القطاعات التي خصخصت فيها الشركات الحكومية.
لكن الواقع يشير إلى أنه في وجود دولة قوية وسوق متطورة تجاريا ورأسمالياً ومجتمع مدني ناضج، تمكنت العديد من الاقتصادات المتقدمة من تطوير وخصخصة قطاعات كبيرة من اقتصاداتها، وضمنت في نفس الوقت أن يكون ذلك في صالح دافعي الضرائب والمدخرين والمستثمرين وقبلهم جميعاً المستهلكون.
ابحث عن المستفيد
لا يتم عادة الكشف عن مدى سوء إدارة الثروات العامة إلا عند وقوع أزمة مالية كبرى، كما حدث في اليونان التي اكتشف العالم فجأة أن اقتصادها كان من أقل الاقتصادات الأوروبية انفتاحاً وبالتالي أقلها تنافسية وأفقرها إلى العدل في توزيع الثروة.
لقد أخفقت اليونان في معالجة مشكلاتها البنيوية الضخمة بسبب أن قلة من المنتفعين كانت لديهم مصلحة في استمرار الوضع على ما كان عليه وإبقاء الأمور كما هي. هذه القلة كانت عبارة عن حفنة من العائلات الثرية والسياسيين التي تمكنت على مدار عقود من السيطرة على الأصول العامة ووسائل الإعلام والنظام المصرفي وذلك بسبب الفساد والمحسوبية.
أحد الأمثلة الشهيرة على تلك المأساة هي شركة السكك الحديدية اليونانية، والتي أنفقت ما يعادل 140% من إجمالي إيراداتها على بند الأجور فقط. ففي عام 2009 بلغ إجمالي الأجور 246 مليون يورو في حين بلغ إجمالي الإيرادات 174 مليون يورو. ولذلك ليس من المستغرب أن تسجل الشركة خسارة قدرها 937 مليون يورو في ذلك العام، وهو ما يزيد على 5 أضعاف دخلها.
بحلول عام 2010 بلغ إجمالي ديون الشركة حوالي 13 مليار يورو، وهو ما عادل حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في ذلك الوقت، وحوالي 40% من إجمالي ديون الشركات الحكومية البالغة نحو 33 مليار يورو. وعندما اكتشف المقرضون الدوليون لأثينا هذه الديون أصروا على إدراجها ضمن الدين العام الرسمي للبلاد.
هذا كان واحداً من بين أمثلة كثيرة لقطاعات وشركات مملوكة للحكومة زاحمت بقلة كفاءتها وضعف إدارتها القطاع الخاص ولم تقم بالدور المنوط بها وخذلت المواطن والمستهلك، وأسهمت في نهاية المطاف في خلخلة الاقتصاد بأكمله.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}