نبض أرقام
07:28 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/11/24
2024/11/23

الدرس اللاتيني..حينما دفعت المكسيك وأخواتها العالم نحو حافة الهاوية

2019/01/25 أرقام - خاص

في صباح الجمعة الموافق الثاني عشر من أغسطس/آب من العام 1983 أغلقت البورصة المكسيكية أبوابها، وفي  نفس اليوم سافر وزير المالية المكسيكي على رأس وفد رفيع المستوى إلى العاصمة الأمريكية واشنطن ليحضر اجتماعا يضم أهم الشخصيات المالية في الولايات المتحدة.

 

 

في الاجتماع الذي حضره من الجانب الأمريكي كل من رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزير الخزانة بالإضافة إلى رئيس صندوق النقد الدولي، أكد الضيوف المكسيكيون على أن بلادهم غير قادرة على سداد أقساط خدمة ديون قدرها  80 مليار دولار، كان من المفترض أن يتم سدادها في غضون أربعة أيام، وتحديداً في السادس عشر من نفس الشهر.
 

لست وحدك
 

ناشد المكسيكيون الأمريكيين الموافقة على تعليق أقساط خدمة الدين المستحقة عليهم لمدة 90 يوماً فقط. في تلك اللحظة، شعر الأمريكيون بالصدمة وذلك لإدراكهم أن توقف المكسيك عن تسديد ديون بهذا الحجم الضخم من الممكن جداً أن يتسبب في انهيار بنوك أمريكية وأوروبية ويابانية عديدة، وقد تنحدر الأمور إلى الأسوأ ويصبح النظام المالي العالمي بالكامل في خطر.
 

كان الوضع خطيرا جداً، ولكن الأسوأ لم يكن قد أتى بعد. فالمكسيك لم تكن وحدها، أمريكا اللاتينية بالكامل كانت غارقة حتى أذنيها في الديون التي حصلت عليها من الولايات المتحدة وأوروبا خلال السنوات العشر السابقة. ولم تمر سوى بضعة أسابيع قبل أن تعلن الكثير من دول أمريكا اللاتينية (بما في ذلك البرازيل والأرجنتين وفنزويلا) دخولها نفس النفق المظلم الذي سبقتهم إليه المكسيك.



 

ديون أمريكا اللاتينية التي لم يتجاوز مجموعها في عام 1970 ما يناهز 29 مليار دولار، ارتفعت إلى 159 مليار دولار في عام 1979، قبل أن تصل إلى 327 مليار دولار في نهاية عام 1982، وهو ما مثل نحو 55% من ديون الدول النامية البالغة 550 مليار دولار في ذلك الوقت، بحسب بيانات شركة "مورجان جارنتي تراست".
 

ديون كل من الأرجنتين والبرازيل والمكسيك فقط بلغت نحو 202.5 مليار دولار. أما خدمة هذه ديون المنطقة بالكامل فقد ارتفعت من 12 مليار دولار في 1975 إلى 66 مليار دولار في عام 1982، والذي وصل معدل الفائدة خلاله إلى ما يتراوح ما بين 15 و16%.
 

الطريق إلى الهاوية
 

كيف تورطت تلك الدول في هذا المستنقع؟ القصة بدأت في بداية السبعينيات، وتحديداً في عام 1973، بعد ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة نتيجة حظر تصدير الخام للدول الغربية إبان حرب أكتوبر ، لتتمكن دول نفطية مثل فنزويلا والمكسيك والبرازيل من تكوين ثروات معتبرة، في حين تعرضت باقي بلدان المنطقة لضغوط مالية هائلة.

 

الدول اللاتينية التي تملك ثروات نفطية استغلت تحسن وضعها الائتماني وحاولت الاستفادة من القروض ذات الفائدة المنخفضة والتي كانت متاحة بكثرة في الأسواق الدولية وكانت أموالاً رخيصة. وفي الوقت نفسه، تسبب ارتفاع أسعار الخام في إحداث تشوهات بميزان المدفوعات بالكثير من الدول النامية الأقل حظاً من حيث الثروات النفطية على خلفية ارتفاع أسعار كافة السلع المستوردة.
 

البلدان النامية وفي القلب منها الدول اللاتينية أصبحت في حاجة إلى تمويل حالات العجز هذه، لذلك اندفعت إلى أسواق رأس المال الدولية محاولة اقتراض مبالغ كبيرة من البنوك. أكثر هذه الديون أو 80% منها كان عبارة عن ديون سيادية.

 

 

احتفظت الكثير من البلدان المصدرة للبترول بإيراداتها النفطية في البنوك الدولية، والتي حرصت في المقابل على إقراض هذه المليارات حتى ولو بأسعار فائدة منخفضة. وفي ذلك الوقت كان أكثر المهتمين بتلك القروض هي البلدان النامية التي تعاني من مشاكل مالية.
 

الكارثة هي أن الفوائد المستحقة على هذه القروض لم تكن ثابتة بل متغيرة. والفوائد المتغيرة المفروضة على الديون المستحقة على أغلب الدول النامية يتم تسعيرها استناداً إلى مؤشر "الليبور" – معدل الفائدة الذي يفرض على الأموال المقترضة بين البنوك في لندن – والذي يتم تعديله بشكل دوري.
 

على سبيل المثال، إذا افترضنا أن المكسيك حصلت على قرض من أحد البنوك الدولية، وتمت الإشارة في عقد القرض إلى أن معدل الفائدة عليه يساوي سعر الليبور لـ6 أشهر بالإضافة إلى 300 نقطة أساس. هذا يعني أن المكسيك مطالبة بدفع معدل الليبور الذي يتم تعديله كل 6 أشهر – أياً كانت قيمته – بالإضافة إلى نسبة قدرها 3%. أي أنه لا يوجد سقف لتكلفة خدمة هذا الدين.
 

بعد أن انفض "المولد" .. من سيسدد؟
 

عصر الأموال الرخيصة والفائدة المنخفضة لم يستمر طويلاً. فقد انتهت الحفلة حين قامت الولايات المتحدة من خلال مجلس الاحتياطي الفيدرالي بفرض سياسات نقدية متشددة أثناء محاولتها خفض معدل التضخم.
 

وتزامن ذلك مع قيام إدارة "ريجان" بخفض معدلات ضريبة الدخل، لتتسبب هذه الإجراءات وأخرى غيرها في ارتفاع تكلفة الديون وانخفاض أسعار المواد الخام بشكل حاد، وهو ما يعني أن الدول النامية المعتمدة على تصدير هذه المواد مثل المكسيك وفنزويلا أصبح لديها الآن أموال أقل لتسديد ديونها التي أصبحت أكثر تكلفة.
 

ما زاد الطين بلة هو الارتفاع الكبير الذي شهده سعر "الليبور" الذي يتم على أساسه تحديد تكلفة خدمة الدين.

الرسم البياني التالي يوضح تطور سعر الليبور خلال الثلاثين عاماً الماضية. وإذا دققت النظر فستلاحظ أنه بدأ يصل إلى أعلى مستويات في تاريخه بداية من مطلع الثمانينيات.



 

وهكذا لم يكن هناك خيار آخر أمام الدول اللاتينية المثقلة بالديون والتي لم يعد بوسعها الاقتراض من البنوك الدولية بسبب تدهور وضعها الائتماني سوى خيارين أحلاهما مر. إما أن تعلن إفلاسها وإما أن تطرق أبواب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي ظل عدم وجود أي مكان آخر يمكنها اللجوء إليه سلمت هذه الدول نفسها للمؤسستين الدوليتين.
 

صندوق النقد الدولي طريقه معروف للجميع، فهو لا يطلب سوى تنفيذ الإجراءات التي تندرج تحت ما تسمى بـ"برامج التكيف الهيكلي". وبسبب عدم وجود أي خيار آخر، وافقت الدول اللاتينية بزعامة المكسيك والأرجنتين والبرازيل على فرض إجراءات اقتصادية صارمة للغاية لكي تتمكن من إعادة جدولة ديونها أو اقتراض المزيد من الديون.
 

بغرض السيطرة على العجز المالي، تركزت سياسات الصندوق حول كيفية خفض الإنفاق الحكومي، لذلك تم الحد من الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وفُرضت قيود صارمة على الإعانات الغذائية.
 

كما استغنت عن جزء من موظفيها الحكوميين وتقليل أجور من تبقى منهم، وأَجْبرت مزارعي الكفاف على زراعة المحاصيل التصديرية، وشجعت خصخصة الصناعات العامة.
 

تسببت هذه الإجراءات في وقوع اقتصادات أمريكا اللاتينية في فخ الركود، وانخفاض نصيب الفرد من الدخل القومي، وزيادة نسبة الفقر واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وظهور الكثير من المشاكل المجتمعية الأخرى مثل تجنيد الأطفال في تجارة المخدرات وارتفاع معدل الجريمة.
 

أين ذهبت كل هذه المليارات؟
 

هناك سؤال منطقي جداً يطرح نفسه، وهو أين ذهبت أموال القروض التي حصلت عليها هذه البلدان خلال السبعينيات؟ طارت في الهواء! هذا ما حدث فعلاً.
 

بسبب خليط من الفساد السياسي والقرارات الحكومية الفاشلة غير المسؤولة، تم إنفاق الجزء الأكبر من هذه المليارات على ما يسمى بالمشروعات القومية الكبرى التي إما لم تنجح أو لم تولد دخلا يبرر تكلفتها الضخمة، وما تبقى تم استخدامه في الاستهلاك الفوري، ولم يحاول أحد إنشاء صناعات إنتاجية وتصديرية.
 

لذلك، لم يمر الكثير قبل أن تتعرض هذه المليارات للفناء، ولم يبق منها سوى تكلفتها. من سيسدد الآن؟ من يسدد كل مرة. الفقراء الذين لم يوافقوا على هذه القروض من البداية ولم يستفيدوا منها أصلاً هم من تحملوا الفاتورة.

 

 

في عام 1999، بلغ مجموع القروض المستحقة على دول أمريكا اللاتينية أكثر من 600 مليار دولار، ارتفاعًا من 425 مليار دولار في عام 1987، ولكن المشكلة لم تكن في الرقم بحد ذاته، المشكلة كانت تتعلق بحجم هذا المبلغ بالنسبة إلى ما تستطيع هذه الدول أن تدفعه فعلاً.
 

في ذلك الوقت كانت تقوم دول المنطقة بإنفاق ما يقرب من 30% من إيراداتها التصديرية على خدمة ديونها الأجنبية والتي كانت تعادل نحو 54% من ناتجها المحلي الإجمالي.
 

خلال الثمانينيات والتسعينيات تم اعتماد أكثر من خطة دولية تهدف إلى مساعدة أمريكا اللاتينية على تجنب التخلف عن سداد ديونها. وبينما نجحت دول في تجنب إعلان إفلاسها مثل المكسيك وفشلت دول أخرى في ذلك مثل الأرجنتين، استنزف الجميع موارده في خدمة الدين وهو ما زاد من الاختلال الاجتماعي في الكثير من دول المنطقة، وأثر على قدرتها على اتخاذ قرارها باستقلالية.
 

ربما أفضل ما نختم به هذا التقرير هو تصريح مثير جداً للاهتمام صدر في عام 1989 عن أستاذة الاقتصاد والعضوة السابقة بالبرلمان المكسيكي "إفيجينيا هيرنانديز" قالت فيه: "إن الهدف الرئيسي من السياسات الاقتصادية التي يتم فرضها على المكسيك منذ عام 1982 هو ضمان استمرار قدرتها على خدمة الدين وليس تحقيق نمو اقتصادي طويل الأجل".
 

تابعت "هيرنانديز" قائلة: "هذه ليست سوى مسكنات.. مجرد فرصة للحكومة لكي تلتقط أنفاسها، ولا تعالج مشكلة الديون الخارجية للمكسيك بشكل جذري. استمرار هذه السياسات يعني أن الولايات المتحدة ستواصل جمع الجزية من الجنوب، ولن يكون هناك نمو اقتصادي حقيقي".

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.