كثيرًا ما تمثل الأراضي، سواء كانت عقارية أو زراعية، عنصرًا كبيرًا للجدل في الاقتصاد، حيث يهتم بها المستهلكون والمستثمرون على حد سواء، فهي ليست سلعة وسيطة تقليدية تهم المنتجين فحسب، وليست سلعة استهلاكية تقليدية أيضًا.
خطورة "الريع"
لذا اهتم الكُتّاب "جوش ريان كولنز" و"توبي لويد" و"لوري ماكفارلين" بتقديم رؤية مختلفة لدور الأراضي في الاقتصاد، القديم والمعاصر، في كتاب "إعادة التفكير في اقتصاديات الأرض والإسكان".
ويضرب الكتاب مثلًا بالمملكة المتحدة، التي تعد أكثر دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية معاناة من ارتفاع أسعار الأراضي منذ عام 1970 وحتى الآن بسبب اختلاف النظرة الاقتصادية للأراضي، وطبيعة انتشار أو انحسار قاعدة ملكيتها.
فكثيرًا ما تظهر مجموعة من المشكلات الاقتصادية والسياسية عندما تصبح ملكية الأراضي مركزة للغاية في أيدي مجموعة أو طبقة معينة، مثل الوضع في بريطانيا التي تشير التقديرات فيها إلى أن عدد كبار ملاك الأراضي فيها نصف مثيله في ألمانيا مثلًا، بما يخلق وضعًا احتكاريًا.
كما يتسبب اعتماد طبقة اقتصادية غنية على امتلاك الأراضي في بقائها خارج العملية الإنتاجية، والاكتفاء بـ"الريع" المتحقق نتيجة لتأجير الأرض أو بيع حقوق استغلالها، وعلى الرغم من أن ذلك قد يكون "مريحًا" و"رابحًا" لهذه الطبقة الثرية إلا أنه يؤذي الاقتصاد.
"دورة الأراضي"
القاعدة العامة أن أية أموال يتم تحصيلها دون المشاركة في الإنتاج تشكل "عائقًا" دون نمو الأخير، لذا فالارتفاع المستمر في أسعار العقارات والإيجارات (بوصفهما سعر الأرض) غالبًا ما يشكل خطرًا على أي اقتصاد، بينما الارتفاع في أسعار رأس المال والرواتب (بوصفها سعر العمل) يشكل مؤشرًا حول الرواج بشكل عام.
وهناك إدراك قديم لهذه المشكلة من بعض الاقتصاديين ومنهم "ديفيد ريكاردو" و"آدم سميث" و"جون ستيوارت ميل"، الذين رأوا جميعًا أن ملكية الأراضي المركزة في أيدي فئة بعينها تضر الاقتصاد بشدة واقترح بعضهم فرض ضريبة "قيمة الأرض" لعلاج تركز الريع، وإعادة جزء من المفقود من الدورة الاقتصادية إليها.
فالأراضي تشهد منذ فجر التاريخ دورة متكررة، تبدأ بحالة من "الشيوع" في ملكيتها، قبل أن تتركز في أيدي البعض، ليتسبب تركز الملكية في أزمات اقتصادية نتيجة لارتفاع تكلفة الإنتاج بشكل كبير دون أن يقابل ذلك الارتفاع الإنتاج ذاته، لتعود ملكية الأرض للتفتت بسبب الأزمات الاقتصادية التي تجعل الأراضي ملجأ للقيمة وهكذا.
ويعتبر الكتاب أن السويد هي الدولة الوحيدة التي نجحت في وضع أسس تحفظ الاقتصاد من "التوحش" الريعي للأراضي، وذلك من خلال مجموعة من السياسات، لعل أهمها وضع حدود لارتفاع الإيجارات بحيث تفرض بقانون وتتناسب تناسبا طرديا مع الارتفاع أو الانخفاض في الأجور، بما يجعلها رابحة لأصحاب الأراضي دون ظلم للمؤجرين.
كما يبدو هناك شكل من أشكال "العقد الاجتماعي" في الدول الاسكندنافية عمومًا بعدم السماح لفئة صغيرة بالاستحواذ على النسبة الأكبر من الأراضي، ولذلك تظهر أعلى نسبة ملكية للأراضي بين السكان في تلك الدول، ولا شك أن توزيع الملكية يسهم في سوق صحي به درجة أعلى من المنافسة وبالتالي تتراجع الممارسات الريعية غير العادية.
الحل
الأزمة في دولة مثل بريطانيا هي السياسة المتشددة التي أقرتها الحكومة البريطانية لحماية ما يعرف بـ"الحزام الأخضر" حول المدن الرئيسية، مما منع الأخيرة من التوسع، فهذا الأمر يجعل المعروض محدودًا ويمهد السوق لقبول وضعية احتكار الأقلية بشكل ما.
وتبرز أزمة "الرهن العقاري" أيضًا لتشكل معضلة في إعادة التفكير في الأراضي والأبنية في الاقتصاد المعاصر، فاعتبار الأراضي والعقارات بمثابة ضمانة مثلى لدى العديد من المصارف يجعل قيمتها ترتفع باستمرار لإدراك كثير من المستثمرين أن بإمكانهم الحصول على أموال بضمان الأراضي مع الإبقاء عليها ضمن حيازتهم في الوقت نفسه.
وقد تسببت هذه الظاهرة في معاناة العديد من الأسر البريطانية جراء تدني الأجور والمعاشات المتناقصة في مقابل نمو أسعار الأراضي والإيجارات، بما يتسبب في تراجع "حالة الرفاهية" لدى العديد من الأسر البريطانية.
ووصل الأمر في المملكة المتحدة إلى بلوغ العقارات والأراضي نصف الضمانات لدى البنوك تقريبًا، وهي نسبة مقلقة إذا استدعينا الأزمة المالية العالمية التي بدأت أول الأمر بسبب الرهن العقاري وليس غيره.
وفي النهاية يرى الكتاب أن "الحل متاح" في التعامل مع الأراضي، غير أنه يستلزم تدخلًا حكوميًا، لا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة وبدرجة ما فرنسا وبعض الدول الأخرى، لكي يتم السيطرة على نمو الأسعار في القطاع العقاري وكذلك زيادة أسعار الأراضي، خاصة وهناك تجربة اسكندنافية مطبقة بالفعل في هذا المجال يمكن الاسترشاد بها.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}