عند الحديث عن هيمنة الشركات الكبرى على العالم وتحكمها في اقتصاداته، فإن نظرية المؤامرة عادة ما تكون حاضرة، فمثل هذه الكيانات التجارية لها أساليبها الخاصة التي تُخضع من خلالها الحكومات والشعوب وتجبر الدول بالنزول على رغبتها -أو هكذا يعتقد البعض من متبني هذه النظرية-، لكن مما لا شك فيه أن نفوذ وسلوك هذه الشركات في الهيمنة قد تبدل على مدار قرون من الزمان.
وفي الماضي -حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا- كان من المقبول أن نسمع روايات عن شركات وطرق تجارية وسلع تسببت في حروب وغذت الأطماع الاستعمارية لدى المحتل الأوروبي، كما حدث في حرب الأفيون الصينية على سبيل المثال، لكن في عصر العولمة والتجارة الحرة والأسواق المفتوحة لم يعد لهذه الصدامات وجود، على الأقل بشكل مباشر كما في السابق.
ومع ذلك، فإن البعض مثل الأستاذ السابق بكلية الأعمال في جامعة هارفارد والكاتب والسياسي الأمريكي، "دفيد كورتن"، يؤمنون بأن الشركات الكبرى لا تزال تحكم العالم كما في السابق، وكل ما في الأمر هو أنها بدلت أساليبها وأصبحت أكثر تحايلًا على القواعد، وكذا أكثر نفوذًا.
الشركات دائمًا ما كانت تحكم
- قبل التطرق إلى نظرية المؤامرة التي تحيط بالشركات الكبرى حاليًا وابتزازها للحكومات، يُشير الكاتب والمؤرخ الكندي "ستفين باون" في كتابه "الملوك التجار: عندما حكمت الشركات العالم بين 1600 و1900" إلى تشابك الأنظمة التجارية للبلدان الأوروبية في الماضي، ويقول إن الرأسمالية في هذه المنطقة كانت نتيجة للمنافسة بين الوكلاء التجاريين، لكنها جاءت مدفوعة أيضًا بالسعي وراء السيطرة على الشعوب والموارد الطبيعية، وهو ما تم عن طريق العنف والاحتكار.
- تم تشكيل الشركات المساهمة أو مجموعات التجار التي رعتها هذه البلدان بناءً على رغبة حكوماتها للقيام بمهام التجارة التي تحتاج لقطع مسافات طويلة، فمثلًا ركز الهولنديون والإنجليز على توحيد تجارهم ووقف الشد والجذب فيما بينهم من أجل التفرغ للمنافسَين الحقيقيين وهما البرتغاليون والإسبان.
- موافقة التجار على التخلي عن المنافسة الداخلية كان مجديًا للغاية، لأن الدول كانت على استعداد لتزويدهم بكل ما يحتاجونه لتحويل مشاريعهم عالية المخاطر إلى مصدر دائم لتوليد الأرباح، وكان أهم ما ضمنته لهم حكومات بلادهم هو الاحتكار.
- رفض انضمام التاجر إلى شركة مثل "الهند الشرقية الهولندية" يعني حرمانه من الوصول إلى منافذ التجارة في آسيا، لذا كان الحافز قويًا بالنسبة للهولنديين، وكان يعد عدم التحاق أي تاجر هولندي بهذا الركب نوعًا من الإهانة، ولعل ذلك يفسر أحد أسباب التاريخ العنيف للشركات والبلدان الأوروبية منذ عام 1600.
- يركز "باون" في كتابه بالأساس على قصص أبطال الغزوات التجارية الأوروبية، والذين بدأوا حياتهم العملية كقادة لشركات تجارية تهدف إلى فتح أسوق جديدة بعيدة عن الديار، فانتهى بهم الأمر مسيطرين على حياة الملايين من البشر.
- الشخصيات التي يركز عليها "الملوك التجار" هم "جان بيترسون كوين" الذي خطط ومهد لتوسع شركة "الهند الشرقية الهولندية" في منطقة جنوب شرق آسيا، و"بيتر ستايفسانت" الذي أرسى قواعد شركة "الهند الغربية الهولندية" في نيو إنجلاند، والسير "روبرت كليف" الذي قاد شركة "الهند الشرقية الإنجليزية" إلى سيطرة إقليمية صارمة على حياة الشعب البنغالي.
- من بين الشخصيات الأخرى؛ "أليكساندر بارانوف" قائد مبادرة الشركة الروسية الأمريكية في ألاسكا، والسير "جورج سيمبسون" رئيس شركة خليج هدسون في سنواتها الأكثر ربحًا، وأخيرًا؛ "سيسيل جون رودس" الذي قاد شركة "جنوب إفريقيا البريطانية"، والتي خرج من رحمها شركة "دي بيرز" وهي أحد عمالقة إنتاج وبيع الماس حاليًا.
- لإلقاء نظرة على كيفية هيمنة هذه الشركات على مقدرات الشعوب، يكفي تسليط الضوء على تجربة "كوين" مع شركة "الهند الشرقية الهولندية"، والتي نجح من خلالها في اختراق السوق الإندونيسية في القرن السابع عشر، وحقق أرباحًا هائلة بفضل احتكار إنتاج وتجارة التوابل الأكثر قيمة في هذه المنطقة، مثل القرنفل وجوزة الطيب والفلفل.
- لكن هذا النجاح لم يكن مبنيًا على دراسات الجدوى المعمقة والحسابات الدقيقة وما تشمله من عمليات رياضية مطولة، بل جاء محمولًا على ظهر السفن الحربية والمعارك العسكرية وتهجير السكان الأصليين.
ماذا تغير في المشهد الحديث للشركات؟
- كانت المعارك التجارية في الماضي، معارك حقيقة تنطوي على صدامات مسلحة وتحتاج إلى البارود والرصاص لجني الأرباح، كما كانت سببًا في إفقار وتشريد شعوب، لكن الأمر اختلف خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين.
- من بين التحولات الرئيسية التي بدأت في أواخر القرن الماضي؛ نمو الشركات متعددة الجنسيات، وتحت ستار اقتصاديات السوق الحرة تمكنت هذه الكيانات التجارية من قيادة القوة الاقتصادية والسياسية.
- في الوقت الذي يقول فيه المدافعون عن هذا التحول إن نمو الشركات يصب في الصالح العام، يرى "دفيد كورتن" أن تنامي قوة الشركات يؤدي إلى نقل هائل للسلطة والثروة والموارد من القطاع العام إلى القطاع الخاص (وبالتالي انتقالها للشركات بدلًا من الشعوب)، مؤكدًا أن الكيانات متعددة الجنسيات لا تلتفت إلى إرادة العامة وتضع مصالحها الشخصية فوق كل اعتبار.
- يرى "كورتن" أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، كيانات ساهمت بشكل رئيسي في توسع الشركات متعددة الجنسيات، ويقول إن البيئة الاقتصادية الجديدة في العصر الحالي أدت إلى نقل هائل للوظائف ورؤوس الأموال واستنزاف الموارد الطبيعية.
- يقول "كورتن" في كتابه "عندما تحكم الشركات العالم" إن أجندة عمل هذه الشركات التي تستهدف غالبًا تعظيم الأرباح في المدى القصير، تضر بالصالح العام، خاصة مع عدم تحملها تكاليف بعض الممارسات التي تمس البيئة والمجتمع، وتصديرها للوظائف ورأس المال خارج البلاد.
- يحاول كتاب "عندما تحكم الشركات العالم" تفنيد بعض الادعاءات التي وصفها بالأساطير، مثل، أن نمو الناتج القومي الإجمالي يعبر بشكل صحيح عن رفاهية الإنسان وتقدمه، وأن الأسواق الحرة غير المنظمة توزع موارد المجتمع بفعالية، وأن النمو التجاري يفيد المواطنين العاديين، وأن العولمة الاقتصادية أمر لا مفر منه، وأخيرًا، أن الشركات متعددة الجنسيات هي مؤسسات خيرة يمكنها توفير بيئة نظيفة ووظائف جيدة للفقراء إذا رُفعت يد الحكومات عنها.
- مع النمو غير المحدود لقوة الشركات العالمية، يتوقع "كورتن" ظهور ما أسماه بـ"استعمار الشركات"، والذي سيؤدي إلى فقدان سيادة الأوطان واستقلالية الاقتصادات والتدهور البيئي والاجتماعي.
- تحذيرات "كورتن" التي أشار إليها في كتابه الصادر قبل أكثر من 20 عامًا، تبدو مشابهة لمخاوف الاقتصادي الفرنسي "توماس بيكتي" من هيمنة المال على السلطة السياسية، كما يبدو أنها كانت صادقة وفقًا لتقارير صحفية حديثة كشفت أساليب الشركات الكبرى في ابتزاز الدول والعاملين لديها.
- بينما تواصل هذه الشركات هيمنتها على الثروة، تقف الحكومات عاجزة عن صدها، بل وتنساق وراء رغباتها ومطامعها، لكن في القرن الحادي والعشرين، كان الغرب من بين ضحايا أطماع شركاته، فهل انقلب السحر على الساحر؟
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}