منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتفرض الشركات الأمريكية سيطرتها شبه الكاملة تقريباً على أغلب الصناعات الدقيقة والمتقدمة، وهي السيطرة التي عززها التراجع الأوروبي بعد انكفاء كل دولة على مشاكلها الخاصة.
وبعد أن أفاق الأوروبيون من سباتهم اكتشفوا أنهم لم يعودوا قادرين على منافسة الأمريكيين في كثير من الصناعات.
لكن الاستثناء الوحيد كان "صناعة الطائرات"، فقد شهدت هذه الصناعة أشهر وأشرس منافسة تجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا خلال الخمسين عاماً الماضية، والتي كان بطلاها شركتي "بوينج" الأمريكية و"إيرباص" الأوروبية، وهما أكبر شركتين مصنعتين للطائرات في العالم حالياً.
معاً وإلا لن نكون
في الستينيات تنافس مصنعو الطائرات الأوروبيون مع بعضهم البعض بعد أن أغلقت كل دولة سوقها على نفسها، وهو ما أضعف من قدرتهم على اختراق الأسواق العالمية ومنافسة الأمريكيين الذين كانوا يسيطرون في ذلك الوقت على أربعة أخماس سوق الطائرات التجارية.
أنهكت الشركات الأوروبية نفسها في محاربة بعضها البعض، غير أن هذا الوضع لم يدم طويلاً، حيث بدأت الحكومات الأوروبية تدرك أن استمرارها بهذه الطريقة سيؤدي حتماً إلى سيطرة الأمريكيين على كامل السوق، مما يعني نهاية الصناعة الأوروبية الضعيفة والمنقسمة، وهي النتيجة التي رأوا أنهم لا يمكنهم التعايش معها أو القبول بها.
بحلول أواخر الستينيات، نجح القادة الأوروبيون في تنحية خلافاتهم السياسية جانباً بعد أن أدركوا أنه ليس باستطاعة أي دولة أوروبية منافسة الأمريكيين بمفردها، ولهذا قرروا التركيز على الخيار الوحيد الذي آمنوا بأنه لا مفر منه، وهو تجميع مواردهم والانخراط في جهد تعاوني لإنشاء كيان أوروبي يمثل القارة في صناعة الطائرات العالمية.
في سبتمبر/أيلول من عام 1967، وفي قرار سياسي أكثر منه تجاري وقعت الحكومات البريطانية والفرنسية والألمانية مذكرة تفاهم، تم الاتفاق خلالها على البدء في تصميم الطائرة الأولى من طراز "إيه 300". وفي عام 1970، تم تأسيس شركة "إيرباص إندستريز".
بشكل مفاجئ، انسحبت الحكومة البريطانية في ذات العام، تاركة فرنسا وألمانيا مع حصة قدرها النصف لكل منهما، قبل أن تعود في عام 1978 وتشتري حصة قدرها 20% من الشركة. في الوقت نفسه، تعتبر إسبانيا من مؤسسي "إيرباص" حيث انضمت إلى المجموعة في عام 1971.
توزيع الأدوار
بعد أن اتفق الأوروبيون مع بعضهم البعض بشكل مبدئي، حان موعد اتخاذ القرار الأكثر حساسية وهو تحديد أين سيتم إنتاج وتصنيع الطائرات. ولنزع فتيل أي توترات قد تحدث، اتفقوا على أن تتولى كل دولة من الدول الشريكة إنتاج جزء معين من الطائرة.
صنع الفرنسيون قمرة القيادة وأنظمة التحكم وقسما من الجزء السفلي من جسد الطائرة، أما بريطانيا فكان من نصيبها الأجنحة، بينما تولى الألمان صناعة الجزء المتبقي من الجسم الخارجي للطائرة. في نفس الوقت قام الهولنديون بتصنيع الأجزاء المتحركة من الأجنحة ولوحات التحكم، في حين قام الإسبان بتصنيع الذيل الأفقي للطائرة.
تم الاتفاق أيضاً على أن يتم تجميع كل هذه الأجزاء في جنوب غرب فرنسا، وتحديداً في مدينة تولوز. وفي نفس الوقت، تم اتخاذ قرار بأن تقوم كل دولة بأكبر قدر ممكن من العمل في مواقعها الصناعية على الأجزاء التي تعمل على صناعتها، لكي تأتي جاهزة للتركيب فوراً، ولا تستغرق عملية التجميع الكثير من الوقت.
في عام 1972، قامت طائرة إيرباص من طراز "إيه 300" برحلتها التجريبية الأولى، والتي انتهت بنجاح، وهو ما أهلها لدخول الخدمة في عام 1974. وفي البداية كان نجاح الشركة الأوروبية ضعيفاً، ولكن بحلول عام 1979، كانت هناك 81 طائرة من ذات الطراز في الخدمة.
لكن اللحظة المفصلية في تاريخ الشركة كانت في عام 1981 حين قدمت طرازها الجديد "إيه 320"، وهو الطراز الذي مكّن الشركة الأوروبية لأول مرة من لعب دور رئيسي في سوق الطائرات التجارية العالمي.
فحتى قبل أن تطير لأول مرة، تلقت الشركة طلبيات مجموعها 400 طائرة، وذلك مقارنة مع طلبيات قدرها 15 طائرة تلقتها عن طرازها الأول في عام 1972.
منذ أيامها الأولى، تستفيد "إيرباص" من الإعانات الحكومية المباشرة التي جاءت في شكل قروض منخفضة التكلفة، من شأنها تمويل ما يتراوح ما بين 70% و 90% من تكلفة تصنيع الطائرة. وبدلاً من سداد القروض وفق جدول زمني محدد – كما هو متعارف عليه في السوق – كان يسمح لـ"إيرباص" بسداد القروض من الإيرادات متى حصلت على الإيرادات، ومهما استغرق ذلك من وقت.
خلال السبعينيات والثمانينيات، احتج مصنعو الطائرات الأمريكيون ومن ورائهم مسؤولو التجارة بالولايات المتحدة على الدعم الحكومي الأوروبي لـ"إيرباص"، مشيرين إلى أن تلك الإعانات تنتهك اتفاقيات التجارة الدولية وأعطت "إيرباص" مزايا تنافسية غير عادلة. كما أكدت واشنطن على أن الإعانات سمحت للشركة الأوروبية بتسعير طائراتها دون سعر التكلفة بحوالي 10% أو أكثر.
لكن الحكومات الأوروبية التي كانت مصممة على الحيلولة دون احتكار الولايات المتحدة لصناعة الطائرات التجارية، بدت غير مهتمة كثيراً بالانتقادات الأمريكية، وعزمت على الاستمرار في دعم "إيرباص" إلى أن تصبح قادرة على الوقوف بمفردها في وجه المصنعين الأمريكيين، مؤمنة بأن نمو صناعة الطائرات في أوروبا سيكون له فوائد اقتصادية واجتماعية على المدى الطويل تتجاوز تكلفة الإعانات.
على حساب الأمريكيين
في غضون خمسة وعشرين عاماً سيطرت "إيرباص" على 50% من سوق الطائرات التجارية العالمي. وفي عام 2003 أصبحت الشركة الأوروبية أكبر مورد للطائرات في العالم، متجاوزة "بوينج" الأمريكية لأول مرة.
على مدار تاريخها الذي يمتد لثمانية وأربعين عاماً حالياً، حققت "إيرباص" نجاحات عالمية كبيرة، من بينها على سبيل المثال، تصنيعها لأكبر طائرة ركاب في العالم "إيه 380"، وطائرة النقل العسكري الأكثر تقدماً "إيه 400 إم"، كما أنها صاحبة واحدة من أكثر الطائرات النفاثة مبيعاً في التاريخ "إيه 320".
في عام 2013، قامت الشركة بتسليم أكثر من 600 طائرة، وتلقت طلبيات بقيمة 240 مليار دولار، في حين يوجد لديها حالياً طلبيات متراكمة لحوالي 5 آلاف طائرة ستعمل على تسليمها في السنوات القادمة.
من بين أسباب الصعود السريع الذي حققته "إيرباص" هو تفوقها التكنولوجي الواضح على منافستها الأبرز "بيونج". فمن بين مزايا طائرات "إيرباص" تصميم قمرة القيادة المتطابق في جميع طرازاتها، مما يسهل على شركات الطيران عملية التحول من طراز إلى آخر.
لكن اللافت للنظر هو أن كل شركة منهما ترى مستقبل صناعة الطائرات بطريقة مختلفة. "إيرباص" على سبيل المثال ترى أن شركات الطيران ستحتاج في المستقبل إلى طائرات أكبر للتعامل مع زيادة حركة السفر الجوي، في حين أن "بوينج" تتوقع أن شركات الطيران ستحتاج إلى طائرات أصغر قليلاً ولكن يمكنها السفر لمسافات أطول.
أخيراً، إن نجاح "إيرباص" يكمن بشكل كبير في جذورها السياسية، وتحديداً في اللحظة التي أدرك فيها الشركاء الأوروبيون أن الطريقة الوحيدة لمنافسة الأمريكيين هي من خلال تعزيز الصناعات الوطنية على أساس أوروبي وإقليمي، وليس على أساس محلي.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}