نبض أرقام
08:13 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/12/18
2024/12/17

في عقر دارهم .. كيف اغتال اليابانيون صُناع السيارات الأمريكيين وسيطروا على أسواقهم؟

2018/11/02 أرقام - خاص

"ميتسوبيشي إيه إم 6 زيرو" .. هذا هو اسم المقاتلة اليابانية الأشهر خلال الحرب العالمية الثانية – فخر سلاح الجو الياباني –  التي كانت بمثابة الكابوس لطائرات الحلفاء التي حاولت التحليق فوق المحيط الهادئ. فقد كانت الطائرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية بمجرد أن تلمح "إيه إم 6 زيرو" من على بعد أميال، تهرب بعيداً ناجية بنفسها، متجنبة الاشتباك معها.

 

 

ولكن لماذا؟ الإجابة تكمن في إمكانيات ومواصفات هذه المقاتلة. والحكاية باختصار كالتالي: في عام 1937 طلبت البحرية اليابانية من المصنعين المحليين مساعدتها في تصنيع مقاتلة بمواصفات خاصة جداً. فقد كانت تريد طائرة تستطيع الطيران من الأرض إلى ارتفاع قدره 3 آلاف متر خلال ثلاث دقائق ونصف دقيقة، والتحليق بسرعة قصوى تقترب من 500 كلم في الساعة.

 

أكدت البحرية اليابانية أيضاً على ضرورة امتلاك هذه المقاتلة لقدرة أفضل على المناورة من أي مقاتلة أخرى موجودة في العالم في ذلك الوقت، وأن تكون قادرة على حمل مدفعين رشاشين. كانت هذه مواصفات قياسية جداً ولا تمتلك نصفها أي من الطائرات المقاتلة الموجودة في ذلك الوقت.

 

ونظراً لصعوبة المواصفات المطلوبة، كانت "ميتسوبيشي" هي الشركة الوحيدة التي تقدمت بعرض لتصنيع هذه المقاتلة. وبالفعل، نجحت في تسليم المقاتلة بالمواصفات المطلوبة في الموعد، ودخلت الخدمة رسمياً في الـ14 من سبتمبر/أيلول 1939 تحت اسم  "إيه إم 6 زيرو".

 

منذ تلك اللحظة وحتى عام 1942، سيطرت "إيه إم 6 زيرو" بشكل كامل على سماء شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ. فقد كانت سريعة وخفيفة ومسلحة تسليحاً جيداً وأكثر قدرة على المناورة من غيرها، وهو ما جعلها تحسم بسهولة أي اشتباك تدخل فيه مع طائرات الحلفاء لصالحها.

 

 

كانت "إم 6 زيرو" أول طائرة في العالم تستطيع الإقلاع من البر والبحر. لذلك على الرغم من أنها كانت في أغلب الوقت تقلع من على متن حاملات الطائرات اليابانية في المحيط الهادئ مما يحد من قدرتها على المناورة إلا أنها كانت قادرة على هزيمة مقاتلات الحلفاء التي كانت تقلع من على البر. وهذا كان شيئًا غير مسبوق.

 

تفوقت "إيه إم 6 زيرو" على أكثر مقاتلات العالم تقدماً في ذلك الوقت، بما في ذلك فخر سلاح الجو البريطاني "هوكر هوريكان" التي لم تصمد كثيراً أمام المقاتلة اليابانية.

 

ولكن ما علاقة هذه القصة بموضوع هذا التقرير؟ ببساطة قصة اليابانيين والعالم مع "إيه إم 6 زيرو" مشابهة جداً لقصة قطاع السيارات الياباني مع نظيره الأمريكي، غير أن ساحة التنافس هذه المرة ليست آسيا أو غرب المحيط الهادئ، وإنما الولايات المتحدة نفسها.

 

وفي الحقيقة، إن كيفية اختراق اليابانيين لسوق السيارات الأمريكي مسلية ومثيرة جداً للإعجاب، لأنها توفر لنا دروساً عظيمة في علوم الإدارة والاستراتيجية والتخطيط.

 

القصة بدأت بسيارتين

 

في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات لم يكن هناك من يتوقع أن تقوم لصناعة السيارات اليابانية قائمة مرة أخرى، بعد أن تعرضت للشلل أثناء وعقب الحرب العالمية الثانية على خلفية الدمار الذي لحق بالمصانع والبنية التحتية للبلاد بالكامل. فقد أفلست "تويوتا" تقريباً في عام 1949، في حين أن إنتاجها في عام 1950 لم يتجاوز الـ300 سيارة.

 

في أغسطس/آب من عام 1957 غادرت سفينة تحمل على متنها اثنتين من سيارات تويوتا ميناء يوكوهاما في طريقهما إلى الولايات المتحدة، لتدخل الشركة اليابانية السوق الأمريكي لأول مرة. ولكن في عامها الأول لم تتمكن الشركة من بيع أكثر من 300 سيارة.

 

لكن منذ ذلك الحين، وبخطوات واثقة وثابتة عملت "تويوتا" على إيجاد موطئ قدم لنفسها في السوق الأمريكي، ومنافسة المصنعين المحليين في سوقهم الخاص. فبحلول العام 1975، أصبحت "تويوتا" أكبر مصدري السيارات الأجانب إلى السوق الأمريكي متجاوزة "فولكس فاجن" الألمانية.

 

لم يتوقف طموح اليابانيبن عند هذه النقطة، حيث رغبوا في منافسة صناع السيارات الأمريكيين أنفسهم والتفوق عليهم. وبالفعل بعد 50 عاماً من دخولها السوق لأول مرة، وتحديداً في عام 2007، تمكنت الشركة اليابانية من تجاوز الأمريكية "فورد" لتصبح ثاني أكبر مصنع للسيارات في الولايات المتحدة (من حيث المبيعات) خلف "جنرال موتورز".

 

لكن كيف تمكن اليابانيون من اختراق السوق الخاص بأكبر البلدان المنافسة لهم في صناعة السيارات بهذا الشكل؟ هذا كان نتاج التخطيط والتطوير المستمر واستغلال أخطاء المنافسين. باختصار كان اليابانيون يفهمون عقلية المستهلك الأمريكي أكثر من المصنعين الأمريكيين أنفسهم.

 

اليابانيون بشكل عام مبتكرون ولديهم قدر جيد من الانضباط وأخلاقيات العمل، ولكن ربما الميزة الأهم التي ساعدتهم في الوصول إلى ما وصلوا إليه هي قدرتهم على التعلم من غيرهم.

 

ففي الوقت الذي كانت لا تزال صناعة السيارات اليابانية في بداية تطورها قام اليابانيون بدراسة نقاط القوة الرئيسية لدى كبار مصنعي السيارات في العالم في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال، كانت السيارات البريطانية تتميز بالتصميمات ذات الأذواق الرفيعة، في حين كانت السيارات الألمانية تشتهر بكفاءة المحركات. أما صناع السيارات الأمريكيون فكانوا يتميزون بفن التسويق.

 

اختراق عقلية المستهلك الأمريكي

 

على نحو مثير للإعجاب، نجحت اليابان في استعارة أفضل الأفكار التي تميز المصنعين في هذه البلدان قبل أن تعالج وتتلافى نقاط الخلل الموجودة فيها. فعلى سبيل المثال، درست اليابان التصميمات الميكانيكية الألمانية الرائعة وقامت بمحاكاتها ولكن ركبتها في سيارات يمكن للمستهلك العادي تحمل تكلفتها.

 

في نفس الوقت، استخدم اليابانيون أساليب التسويق التي تتميز بها الشركات الأمريكية، وبفضلها تمكنت شركة مثل "تويوتا" من اختراق عقول وقلوب المستهلكين الأمريكيين الذين أصبحوا ينظرون إلى الشركة اليابانية ليس كشركة أجنبية وإنما باعتبارها جزءًا من المجتمع الأمريكي.

 

نجاح "تويوتا" في كسب عقول وقلوب الأمريكيين لم يكن صدفة بل كان نتاج خطة طويلة الأمد وبالغة التعقيد تم نسجها ببطء وبشكل ممنهج شمل كافة أركان الاقتصاد الأمريكي.

 

على سبيل المثال، واجهت الشركة اليابانية بشكل استباقي الشكاوى التي تتهمها بالاستيلاء على وظائف الأمريكيين التي تواجهها عادة الشركات الأجنبية من خلال التأكيد ببساطة على أن مصانعهم موجودة في الولايات المتحدة وأن موظفيهم هم عمال أمريكيون.

 

 

وهذه نقطة مهمة جداً، لأنه في الوقت الذي كانت تنقل فيه الشركات الأمريكية مصانعها إلى بلدان أخرى أقل تكلفة مثل الصين وتايلاند، ذهب اليابانيون وقاموا ببناء مصانعهم في الولايات المتحدة صاحبة أكبر سوق للسيارات في العالم، لسببين الأول هو تجنب التعريفات الجمركية، والثاني هو رغبتهم في تجنب الاتهام بالاستيلاء على وظائف الأمريكيين.

 

لم يكتف اليابانيون بذلك، بل قاموا بتشجيع الموردين على الانتقال إلى السوق الأمريكي وبناء مصانعهم في الولايات المتحدة وتوظيف عمال أمريكيين. وفي نفس الوقت، قاموا بالتعاقد مع شبكة واسعة من الوكلاء المحللين لتسويق منتجاتهم في جميع أنحاء البلاد.

 

كجزء من الخطة، حرصت "تويوتا" – أكبر مصنعي السيارات اليابانيين – على رعاية الفرق الرياضية المحلية، بالإضافة إلى عدد من الأنشطة والفعاليات الفنية في عدد كبير من المدن الأمريكية، كما أسهمت في مجموعة واسعة من الجمعيات الخيرية والبرامج التعليمية.

 

لذلك، ليس من المستغرب أن ينظر الكثير من الأمريكيين إلى سيارات "تويوتا" باعتبارها سيارات أمريكية. ولم لا؟ فوظائفهم وأنشطتهم المجتمعية ومؤسساتهم التعليمية والخيرية مرتبطة بشكل ما بـ"تويوتا". وفي الحقيقة، لم تتمكن أي شركة أجنبية أخرى من اختراق عقول الأمريكيين كما فعلت "تويوتا".

 

ولكن هل "تويوتا" فعلاً سيارة أمريكية؟ قطعاً لا ولن تكون أبداً أمريكية. ودليل ذلك هو المليارات التي تحققها الشركة من مبيعاتها في السوق الأمريكي. أين تذهب هذه المليارات؟ اليابان هي المكان الذي تستقر فيه أرباح "تويوتا" التي رغم أنها متغلغلة بشكل ممنهج في نسيج الاقتصاد الأمريكي، إلا أنها تظل يابانية.

 

لماذا يعجز الأمريكان عن رد الصفعة؟

 

في عام 2016، سيطر مصنعو السيارات اليابانيون على 39% من المبيعات في سوق السيارات الأمريكي، وفقاً لبيانات "وول ستريت جورنال". ويساهم هذا الحضور القوي لليابانيين في السوق الأمريكي في اختلال الميزان التجاري بين الولايات المتحدة واليابان لصالح الأخيرة.

 

فوفقاً لبيانات وزارة التجارة الأمريكية، بلغت قيمة العجز التجاري بين البلدين خلال عام 2016 حوالي 68.9 مليار دولار، من بينها 52.6 مليار دولار مصدرها واردات السيارات وقطع الغيار.

 

هذا الوضع لطالما أزعج الساسة في واشنطن بما فيهم الرئيس الأمريكي الحالي "دونالد ترامب" الذي هاجم اليابانيين أكثر من مرة متهماً إياهم بعرقلة دخول السيارات الأمريكية إلى السوق الياباني. وهو نفس الادعاء الذي يردده عدد من صناع السيارات الأمريكيين.

 

 

ولكن هل هذا صحيح؟ هل اليابان فعلاً تعرقل مصنعي السيارات الأمريكيين الراغبين في دخول سوق السيارات الياباني الذي يعتبر ثالث أكبر أسواق السيارات في العالم بعد السوقين الأمريكي والصيني؟ لا. إذن، لماذا لم تنجح الشركات الأمريكية في اختراق السوق الياباني؟

 

أولاً، لا تفرض اليابان أي تعريفات جمركية على وارداتها من السيارات، بعكس الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي تتراوح قيمة التعريفات الجمركية المفروضة لديها على وارداتها من السيارات من 2.5 إلى 10%.

 

في الحقيقة إن فشل شركات السيارات الأمريكية في اختراق السوق الياباني وتأمين حصة معقولة لنفسها يرجع بشكل أساسي إلى عدم قيامها بالاستثمار في بناء شبكات توزيع تساعدهم على اقتحام السوق. ولكن لماذا لم يستثمروا في بناء تلك الشبكات؟ لأنهم رأوا أن نتائجهم في هذه السوق غير مشجعة.

 

على سبيل المثال، انسحبت "فورد" من السوق الياباني في عام 2016 بعد أن تمكنت من بيع 5 آلاف سيارة فقط خلال العام بالكامل! في حين أن "جنرال موتورز" التي لا تمتلك سوى 28 منفذ توزيع في اليابان باعت ألف سيارة فقط خلال عام 2016!

 

هذه في الحقيقة أرقام مثيرة للسخرية خصوصاً إذا ما قارناها بمبيعات تويوتا وحدها في السوق الأمريكي التي بلغت ما يقرب من 2.5 مليون سيارة خلال نفس العام. نحن لم نتحدث عن الشركات اليابانية الأخرى التي تتقاسم مع "تويوتا" كعكة السوق الأمريكي مثل "هوندا" و"نيسان" اللتين سيطرتا على 9.17% و8.76% من السوق خلال عام 2016.

 

لماذا لن يتكرر سيناريو "إيه إم 6 زيرو"؟

 

بالعودة إلى قصة المقاتلة اليابانية "إيه إم 6 زيرو" التي سردناها في بداية التقرير. لعل بعضنا لاحظ إشارتنا إلى أن هيمنة هذه الطائرة استمرت لثلاث سنوات فقط بدأت في عام 1939 وانتهت في عام 1942، أي قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات. ما الذي تغير بعد عام 1942؟

 

ما حدث هو أن الحلفاء خصوصا الأمريكيين تجاهلوا في البداية معلومات استخباراتية تشير إلى الخطورة التي تشكلها "إيه إم 6 زيرو" وتأثيرها على موازين القوى في الحرب. واستمر الوضع على هذه الحال إلى أن فاق الأمريكيون على حادثة "بيرل هابور" في ديسمبر/كانون الأول من عام 1941.

 

فجأة أصبحت الرغبة في التعرف على إمكانيات ومواصفات "إيه إم 6 زيرو" التي كلفت الحلفاء خسائر فادحة هوساً بالنسبة للأمريكيين، قبل أن يتمكنوا في عملية نوعية في منتصف عام 1942 من الاستيلاء على نسخة سليمة من المقاتلة اليابانية.

 

 

تم شحن "إيه إم 6 زيرو" إلى الولايات المتحدة، قبل أن يتم إخضاعها لمجموعة من الفحوصات والاختبارات المكثفة، اكتشف خلالها الخبراء الأمريكيون نقاط ضعف المقاتلة اليابانية وحدود قدراتها، قبل أن يستخدموا تلك المعلومات في الإيقاع بتلك الطائرات وإسقاطها، ومرروها إلى البريطانيين والصينيين. وبحلول عام 1943 انتهت هيمنة "إيه إم 6 زيرو".

 

نجح الأمريكيون حينها في استدراك الأمر وإزالة مكمن الخطر الذي شكلته "إيه إم 6 زيرو"، ولكنهم لم يتمتعوا بنفس الحظ في منافستهم مع شركات السيارات اليابانية التي تجاهلوا خطورتها لسنوات، لدرجة أنهم حين استيقظوا وأدركوا حقيقة الوضع كان الوقت متأخراً للغاية، لتتحول خطتهم مع الوقت من هزيمة "تويوتا" وفرض السيطرة على سوقهم الخاص، إلى محاولة الحفاظ على حصصهم السوقية الحالية.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.