نبض أرقام
07:57 م
توقيت مكة المكرمة

2024/11/23
2024/11/22

نوبل في الاقتصاد هذا العام .. فلتحيا الفكرة!

2018/10/12 أرقام - خاص

"أعط الرجل سمكة، وتكون قد أطعمته لمدة يوم؛ علمه الصيد، وستكون أطعمته إلى الأبد" .. العبارة السابقة هي واحدة من أشهر الحكم المشهورة بين الناس منذ القدم. ولكن نسخة القرن الواحد والعشرين من هذه الحكمة تبدو مختلفة قليلاً عن ذلك.

 

هذ الأيام ربما يكون الشكل الأنسب لهذه الحكمة كالتالي: "ابتكر طريقة أفضل لصيد الأسماك أو تربيتها أو تعديلها جينياً (من خلال الهندسة الوراثية) وستكون أطعمت عدداً كبيراً من الناس، لأن الطرق التي ستبتكرها يمكن أن يتم نسخها بدون تكلفة تقريباً لتنتشر في جميع أنحاء العالم وتستفيد منها أعداد كبيرة من البشر.

 

 

ابتكارك هذا من الممكن أن يجعلك ثرياً أيضاً. فلا الإدخار ولا الاستثمار أو حتى التعليم هي مفاتيح الازدهار بالنسبة للثروات الخاصة أو ثروات الأمم، وإنما المفتاح الرئيسي هي الأفكار الجديدة. هذا هو أساس ما يسمى بـ"الاقتصاد القائم على المعرفة".

 

الشاب الثلاثيني وأطروحته المغايرة

 

علاقة المعرفة بالاقتصاد ظلت مهملة من قبل كبار الاقتصاديين في جميع أنحاء العالم لأكثر من قرنين إلى أن قام أستاذ جامعي شاب يبلغ من العمر 36 عاماً يسمى "بول رومر" في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1990 بنشر نموذج رياضي للنمو الاقتصادي في ورقة بحثية بدا عنوانها بسيطاً جداً ومخادعاً: "التغيير التكنولوجي الداخلي".

 

فرغم مرور أكثر من 240 سنة على تقديم "آدم سميث" لكتابه الأشهر على الإطلاق "ثروة الأمم"، لا يزال الاقتصاديون يتجادلون حول الأسباب التي تجعل الأمم ثرية. وهم بالفعل لا يعرفونها. ولكن قبل 28 عاماً ظهر "رومر" مدعياً في ورقته البحثية الأشهر على الإطلاق أنه يعرف بالفعل العوامل التي تقود الأمم نحو الثراء.

 

يقول "رومر" إن الأفكار والاكتشافات التكنولوجية هي المحركات الدافعة للنمو الاقتصادي. فعلى عكس عوامل الإنتاج التقليدية – الأرض والآلات ورأس المال – التي تتميز بالندرة، نجد أن الأفكار والمعرفة تتميز بالوفرة، ولكن الأهم من ذلك هو أنها تبنى على بعضها البعض ومن الممكن أن يتم نسخها دون تكلفة أو بثمن بخس. بعبارة أخرى، الأفكار لا تخضع لقانون تناقص الغلة.

 

وفي سعيه لتوضيح ذلك، بدأ "رومر" ورقته البحثية المكونة من 32 صفحة والمنشورة في مجلة الاقتصاد السياسي بجملة بدت محيرة لكثيرين، حيث كتب: "إن السمة المميزة للتكنولوجيا كأحد مدخلات الإنتاج هي أنها ليست سلعة تقليدية أو عامة وإنما سلعة غير تزاحمية (Non rival) وغير قابلة للاستبعاد جزئياً (Partially excludable)."
 


ورغم أن هذه الجملة كتبت قبل 28 عاماً إلا أنها لا تزال تشكل لغزاً بالنسبة لكثيرين. لكن كل ما في الأمر أن "رومر" قام بزيادة التمييز بين السلع "العامة" التي تنتجها الحكومات والسلع "الخاصة" التي ينتجها المشاركون في السوق من خلال تصنيفها إلى سلع تزاحمية وأخرى غير تزاحمية، وسلع قابلة للاستبعاد وأخرى غير قابلة للاستبعاد.

 

وببساطة، السلع التزاحمية هي السلع التي يؤدي استهلاك أحد الأشخاص لها إلى تقليل المتاح منها للأخرين، وهذا ينطبق على كل السلع التي تستطيع أن تمسكها بيديك كالأجهزة الكهربائية والطعام وما إلى ذلك، في حين أن السلع غير التزاحمية هي تلك التي لا يقلل استهلاك أحد المستخدمين لها من المتاح منها للآخرين، وهذا ينطبق على كل أنواع المعرفة.

 

على سبيل المثال، التقرير الذي تقرأه الآن هو سلعة غير تزاحمية لأنه في نفس الوقت الذي تطلع عليه أنت يوجد هناك غيرك يقرأه أو انتهى من قراءته دون أن يتأثر استهلاك أي منكم بالأخر. وهذا ينطبق أيضاً على الكتب الإلكترونية التي يتم تحميلها على أجهزة كيندل. لكن هل بإمكان الجميع الإطلاع على هذه الكتب؟ هذا يقودنا إلى التصنيف الثاني الذي ذكره "رومر".

 

الكتب الإلكترونية كغيرها من أشكال المعرفة "قابلة للاستبعاد جزئياً" أي أنه بوسع الجهة المصدرة لها استبعاد أي مستخدم من استخدامها أو التحكم في القدرة على الوصول إليها، بحيث لا يصل إليها إلا من يدفع ثمنها. لكن في المقابل توجد هناك سلع غير قابلة للاستبعاد كمشاريع البنية التحتية مثلاً التي يستطيع كافة المواطنين الاستفادة منها.

 

وبالمناسبة، مفهومي التزاحمية والقابلية للاستبعاد يتم تداولهما في الأوساط الأكاديمية منذ الستينيات ولكن عبقرية "رومر" تكمن في كونه أول من ألقى الضوء على دور الأفكار (كسلع غير تزاحمية) في دفع النمو الاقتصادي. حيث وضح أهمية الأسرار التجارية والمعادلات الرياضية والخوارزميات والعلامات التجارية والآليات وبراءات الاختراع والتصاميم والخرائط وحقوق الملكية، وهذه كلها يمكن اختصارها في كلمتين هما: "اقتصاديات المعرفة".

 

سر ثراء "مايكروسوفت"

 

تسببت هذه الورقة في تسليط الأضواء بشكل كبير على "رومر" وأصبح فجأة من نجوم الاقتصاديين، لأن النظرية التي ساقها في هذه الورقة والتي أطلق المجتمع الأكاديمي عليها اسم "نظرية النمو الجديدة" كانت أكثر قدرة من غيرها على تفسير النمو الاقتصادي الذي قادته شركات التكنولوجيا خلال التسعينيات وبداية الألفية الثالثة.

 

فقد كانت هذه هي النظرية الوحيدة التي استطاعت تفسير صعود شركة مثل "مايكروسوفت" ودورها في دعم الاقتصاد الأمريكي. فعلى سبيل المثال، قامت الشركة التي أسسها المليادير الأمريكي "بيل جيتس" باستثمار حوالي 150 مليون دولار في عملية تطوير النسخة الأولى من نظام التشغيل "ويندوز"، ولكن تكاليف إنتاج النسخة الثانية من ذات الإصدار صفر حرفياً. هذه الملايين صرفت من أجل خلق المعرفة التي باعتها مايكرسوفت لاحقأ للمستهلكين حول العالم بمليارات الدولارات.

 

نظام "ويندوز" هو سلعة قابلة للاستبعاد بمعنى أنه بإمكان "مايكروسوفت" التحكم في من يحق له استخدامه (وهو عادة الشخص الذي يدفع). كما أن استخدامي أنا لهذا النظام وبالتالي المعرفة المبني عليها لا يؤثر بأي شكل على قدرة غيري على استخدامه في نفس الوقت. فهو ليس سلعة نادرة كرأس المال والآلات. وهذا هو مفهوم عدم التزاحم.



لكن في ذات الوقت تعرضت نظرية "رومر" لانتقادات كثيرة من قبل اقتصاديين كبار. ومن بين الاعتراضات التي ساقها النقاد هي إنه إذا كانت الأفكار هي المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي فيجب أن تكون دولة مثل الولايات المتحدة هي الأسرع نمواً في العالم باعتبار أنها هي أكثر دول العالم إنفاقاً على البحث والتطوير. ولكن الواقع غير ذلك، فالولايات المتحدة ليس هي الأسرع نمواً اقتصادياً.

 

في المقابل، يعترف "رومر" بأن اقتصادات بعض البلدان التي كانت فقيرة يوماً ما مثل كوريا الجنوبية والصين نمت بسرعة أكبر من الولايات المتحدة، ولكنه في الوقت نفسه يشير إلى أن الأصح هو أن تتم مقارنة الولايات المتحدة بنظرائها من الدول المتقدمة الأخرى.

 

فعلى سبيل المثال، نما الاقتصاد الأمريكي بمعدل أسرع من نظيره البريطاني خلال القرن الـ100 عام الأخيرة، مما أدى إلى وجود اختلاف كبير في حجم نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لدى كلا البلدين. ويقول "رومر" إن الاستثمارات الأمريكية الكبيرة في المعرفة والاكتشاف هي سر هذا التفوق.

 

باختصار تتلخص فكرة "رومر" في أن خلق المعرفة ونشرها وتطويرها وصقلها اللامتناهي تقريباً هو مفتاح خلق الثروات العامة والخاصة. باللغة العربية ما يقوله "رومر" هو أن الدول وخصوصاً النامية منها يجب أن تركز بشكل أكبر على خلق المعرفة ودعم الأفكار الإبداعية وبشكل أقل على بناء الطرق والمصانع وكافة أشكال الإنفاق الرأسمالي التقليدية.

 

نبؤة عمرها 21 عاماً

 

على عكس زملاء المهنة، بدا كبار مسؤولي البنوك الاستثمارية مقتعين بأفكار "رومر" ولجأوا إليه طالبين استشارته. فقد كانوا أشبه بأصحاب رؤوس الأموال المغامرة ولكنهم في الوقت نفسه كانوا قلقون بشأن مخاطر تمويل الأفكار بدلاً من تقديم القروض بضمان الأصول التقليدية.

 

على سبيل المثال، قام "رويال بنك أوف سكوتلاند" برعاية "رومر" من خلال مؤسسة فكرية كندية، كما دعاه مرات عديدة لإلقاء كلمات أمام مجموعة من كبار المصرفيين. وفي ديسمبر/كانون الأول من عام 1996 قام البنك بزيادة رأس مال ذراعه الاستثماري المختص بتمويل المشاريع القائمة على المعرفة مثل الحوسبة والعلوم البيولوجية من 150 مليون دولار إلى 350 مليون دولار.

 

في الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني 1997 نشرت "وول ستريت جورنال" مقالاً أشارت خلاله إلى أن كثيرين من خارج الوسط الأكاديمي يتوقعون حصول "رومر" على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية يوماً من الأيام. وهي الفكرة التي أعتقد "رومر" نفسه" أنها حمقاء. لكن هل كانت كذلك؟

 

 

في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أعلنت الأكاديمية السويدية للعلوم منح الأمريكيين "بول رومر" و"ويليام نوردهاوس" جائزة نوبل في الاقتصاد مناصفة، لجهودهما في "تصميم أساليب لمعالجة القضايا الأكثر إلحاحا: النمو المستدام الطويل الأمد في الاقتصاد العالمي ورفاهية سكان العالم".

 

فوز "رومر" بالجائزة لم يكن مفاجئاً للأغلبية، فقد كان متوقعاً منذ سنوات، غير أن المفاجأة تكمن في أنه فاز بها هذا العام تحديداً. وسبب المفاجأة هو أن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" ذكر اسم "رومر" أكثر من مرة ممتدحاً إياه، وهو ما جعل البعض يعتقد أن تعليقات "ترامب" قد تجعل لجنة نوبل تتجاهل "رومر" هذا العام لكي تنأى بنفسها عن شبهة التأثر بتعليقات الرئيس الأمريكي.

 

لكن في النهاية لا يوجد شك في مدى استحقاق "رومر" لأفضل وأهم جائزة مرموقة في العالم.

 

"نوردهاوس" .. لم يعد بالإمكان تجاهل المناخ

 

قبل حصوله على نوبل كان "ويليام نوردهاوس" أحد أشهر الاقتصاديين في العالم، وربما يرجع ذلك بشكل أساسي إلى كتابه الشهير "الاقتصاد" الذي كتبه مع "بول صامويلسون" والذي ترجم إلى عشرات اللغات ويتم تدريسه حالياً في عدد كبير من الجامعات حول العالم.

 

أجرى "نوردهاوس" أبحاثاً تتعلق بالنمو الاقتصادي وعلاقته بالطبيعة والمناخ. فقد كان النمو في الثمانينيات ديناميكياً للغاية، حيث كان كل ما يهم صناع القرارين السياسي والاقتصادي هو الحصول على معدل نمو معين، متجاهلين حقيقة أن العديد من السلع الاقتصادية مثل الموارد الطبيعية والهواء النقي يصعب إعادة إنتاجها.

 

كان "نوردهاوس" هو أول من أشار إلى أن تغير المناخ وتأثيره على الرفاهية الاقتصادية لا يشغل بال أغلب الحكومات حول العالم والتي لا تهتم سوى بالأرباح والناتج المحلي الإجمالي. وتحت إشرافه تم تطوير النموذج الديناميكي المتكامل للاقتصاد المناخي (DICE) والنموذج الإقليمي المتكامل للاقتصاد المناخي (RICE) وهما نموذجان يدمجان تغير المناخ في التحليل الاقتصادي.

 

 

كان لإسهامات "نوردهاوس" تطبيقات عملية خارج المجال الأكاديمي. فقد استخدمت وكالة حماية البيئة التابعة للحكومة الأمريكية هذه النماذج في تحليل التكلفة الاجتماعية لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

 

أخيراً، إن إسهامات كلاً من "رومر" و"نوردهاوس" في علم الاقتصاد متشابهة إلى حد كبير. فما يقوله الرجلان ببساطة هو إن النمو الاقتصادي لا ينبغي أن يكون مدفوعاً فقط بعوامل الإنتاج التقليدية، وأنه توجد هناك أشياء أخرى يجب أن تؤخذ في الاعتبار. كما أوضحا أن الناس يمكنهم أن يؤثروا على سرعة واستدامة النمو باختياراتهم.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.