نبض أرقام
07:49 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/12/18
2024/12/17

معركة "بريتون وودز" .. كيف صعد الدولار فوق جثة الإسترليني ليكبس على أنفاس العالم؟

2018/08/22 أرقام - خاص

في الأول من يوليو/تموز من عام 1944، أي بعد أقل من شهر من قيام دول الحلفاء بإنزال قواتها على شواطئ النورماندي الفرنسية، اجتمع 730 مندوباً يمثلون 44 دولة لمدة ثلاثة أسابيع في فندق "ماونت واشنطن" في مدينة "بريتون وودز" بولاية نيوهامبشير الأمريكية للتحدث عن الاقتصاد وليس عن الحرب التي لم تكن قد وضعت أوزارها بعد.

 

نظام "بريتون وودز" الذي تم تأسيسه في هذا الاجتماع انتهى فعلياً في عام 1971، ولكن كلما تعرضت الأسواق المالية العالمية لاضطرابات أو أزمات كبرى، ترتفع أصوات كثيرة مطالبة بضرورة تبني العالم لـ"بريتون وودز" جديد، أو نظام نقدي يقوم على أساس "مقياس التبادل الذهبي". لكن هل يعرف هؤلاء كيف خرج اتفاق "بريتون وودز" بهذا الشكل؟

 

 

على سبيل المثال، قد يفاجأ البعض بأن كل الموقعين تقريباً على الاتفاق الذي تمت صياغته بمعرفة الأمريكيين لم يكونوا على دراية بحقيقة ما وافقوا عليه.

 

إن القصة الحقيقية لكيفية نشأة نظام "بريتون وودز" مليئة بالدراما المأساوية والمكائد والتنافس غير الشريف الذي سيطر على معركة بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، نجحت خلالها واشنطن في القضاء على لندن كمنافس اقتصادي وسياسي، ومهدت بفضلها الطريق أمام الهيمنة المطلقة للدولار وانتهاء عصر الإسترليني.

 

وفي هذا التقرير، سنستعرض معاً أهم ما أورده " بن ستيل" مدير مجلس العلاقات الخارجية (CFR) في كتابه الصادر في عام 2013 "معركة بريتون وودز" والذي قدم خلاله سردا شاملا لهذا الحدث التاريخي المهم بعد أن وضعه بمهارة في سياقه الاقتصادي والجيوسياسي.

 

رجلان

 

رغم حضور مئات المشاركين، كان اتفاق "بريتون وودز" في حقيقته عبارة عن صراع بين رجلين اثنين في خضم معركة نقل الهيمنة الاقتصادية العالمية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة. فالبريطانيون كان يمثلهم الاقتصادي المعروف "جون ماينارد كينز" والذي سلطت عليه الأضواء باعتباره أشهر المشاركين، في حين مثّل الأمريكيين المسؤول الغامض بوزارة الخزانة "هاري ديكستر وايت".

 

في ذلك الوقت كان "كينز" هو أشهر خبير اقتصادي في العالم، وكان يعمل كمستشار لوزارة الخزانة البريطانية، وفي مواجهته تواجد "وايت" الذي على الرغم من أنه لم يكن معروفاً بشكل كبير خارج واشنطن إلا أنه كان خبيراً اقتصادياً مرموقاً حاصلا على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة هارفارد، والأهم من ذلك هو أن وزير الخزانة الأمريكي " هنري مورجنثاو" وثق في قدرته على حسم المفاوضات لصالح الأمريكيين والقضاء على بريطانيا كمنافس اقتصادي، وتأسيس هيمنة الدولار.

 

قبل ذلك الاجتماع كان لدى بريطانيا والولايات المتحدة وجهات نظر مختلفة حول الشكل الذي يجب أن يصبح عليه الاقتصاد العالمي في فترة ما بعد الحرب. فرئيس الوزراء البريطاني "وينستون تشرشل" كل ما أراده هو الحفاظ على الإمبراطورية البريطانية، وهو نفس الهدف الذي سعى "كينز" لتحقيقه، حيث كان يرى أن الاستعمار البريطاني ضرورة اقتصادية.

 

على الجانب الآخر، رأى الأمريكيون بزعامة "فرانكلين روزفلت" أن البريطانيين لا زالوا يعيشون في وهم أمجادهم السابقة، واعتقدوا أن الوقت قد حان لتتراجع بريطانيا العظمى إلى الخلف، وعلى هذا الأساس قاموا بدفع المفاوضات خلال ذلك الاجتماع باتجاه نظام يعكس الواقع الجديد ويعبر أكثر عن القوى العالمية الجديدة.

 

 

طوال الاجتماعات التي استمرت لما يقرب من 3 أسابيع كان "كينز" و"وايت" يتواقحان ويرفعان صوتهما على بعضهما البعض أثناء سعي كل منهما لتوجيه دفة المفاوضات لصالحه، ولكن لسوء حظ بريطانيا لم يكن لدى "كينز" الكثير من أدوات القوة التي تمكنه من فرض وجهة نظره.

 

ديون الحرب التي أثقلت كاهل بريطانيا تركت وفدها الحاضر للاجتماع في موقف تفاوضي ضعيف، كما أن نبرة "كينز" المتعالية جعلت الأمور أكثر سوءًا. وفي المقابل تمكن "وايت" من تحقيق انتصار تلو الآخر لصالح الولايات المتحدة على حساب بريطانيا التي تم رفض أغلب الأفكار المطروحة من قبلها.

 

فشل الوفد البريطاني في إقناع الأمريكيين بحصول بلادهم على قرض بدون فوائد، كما لم يتمكنوا من جعل لندن مقراً للمؤسستين الدوليتين الشهيرتين "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" اللتين تم الاتفاق على تأسيسهما في ذلك الاجتماع بغرض دعم التوجه السياسي والاقتصادي للاتفاق، بعد أن أصر الأمريكان على أن تكون نيويورك مقراً لهما.

 

تحت وطأة الديون التي تدين بها للولايات المتحدة والتي حصلت عليها أثناء صراعها مع ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، خسرت بريطانيا معركة "بريتون وودز" بشكل واضح، بعد أن بدا واضحاً للجميع أن الولايات المتحدة، القوة العالمية الصاعدة في ذلك الوقت هي من تمتلك اليد العليا.

 

في ظلام الليل

 

على الرغم من أن "كينز" كان أبرز الحاضرين في ذلك الاجتماع، إلا أن "وايت" تمكن من إدارة المفاوضات بسلاسة وذكاء ونجح في ترجيح الكفة ناحية الأمريكيين. واتضح لاحقاً أن "وايت" تعمد إهدار الوقت خلال المفاوضات لأنه في حقيقة الأمر لم يكن يحتاج إلى الدخول فيها من الأساس، لأن القرارات التي اشتمل عليها النص النهائي للاتفاق تم اتخاذها مسبقاً.

 

لم تخل المفاوضات أيضاً من الخداع. ففي تمام الساعة التاسعة والنصف من صباح الرابع عشر من يوليو/تموز، اجتمع وزير الخزانة الأمريكي مع أعضاء الوفد الأمريكي ليخبرهم وهو يشعر بالبهجة بأن "وايت" سهر حتى الثالثة صباحاً لينتهي من المسودة النهائية لاتفاق "بريتون وودز".

 

لكن ما قام به "وايت" فعلاً هو استبدال كلمة "الذهب" في الاتفاق المكون من 96 صفحة بعبارة "الذهب والدولار الأمريكي" في اللحظات الأخيرة التي سبقت توقيع الحاضرين على الاتفاق، ولم يتم عرض ذلك التعديل على اللجنة المختصة بصياغة نص الاتفاق. وهكذا عزز الأمريكان من موقف الدولار كوسيلة للتبادل الدولي.

 

 

إكمالاً لسيناريو الخداع، حرص الأمريكان على وضع البريطانيين بالتحديد تحت ضغط قبل التوقيع لكي يضمنوا عدم التفاتهم إلى التعديل، وذلك من خلال إبلاغهم بأن أمامهم ساعات لمغادرة مقر إقامتهم. وبالفعل لم يلاحظ أي من الموقعين على الاتفاق التعديل الذي تم إجراؤه في اللحظات الأخيرة. ولكن بعد أن غادرت الوفود ثار جدل بين الأمريكيين والبريطانيين حول تفسير البنود الموقع عليها.

 

بعد 5 أشهر من ذلك الاجتماع صرح "كينز" مدافعاً عن نفسه قائلاً إنه تم دفعهم بشكل ما إلى التوقيع على الاتفاق دون أن تتاح لهم فرصة قراءة نسخة مرتبة منه، موضحاً أنه تم إبلاغهم من قبل مضيفهم أنه تم البدء في ترتيب إجراءات خروجهم من الفندق المقيمين به.

 

صعود الدولار .. القمة لا تسع اثنين

 

طوال النصف الأول من القرن العشرين هيمن الجنيه الإسترليني على النظام النقدي العالمي باعتباره العملة الاحتياطية الأولى. وفي ذلك الوقت كان الدولار الأمريكي يلعب دوراً ثانوياً كعملة احتياطية بالمقارنة مع العملة البريطانية.

 

ففي الخمسينيات كانت منطقة الإسترليني (35 دولة ومستعمرة مربوطة بالجنيه الإسترليني وتحتفظ بكميات منه كاحتياطيات أساسية) تسيطر على نصف التجارة العالمية، في حين كان الإسترليني يمثل أكثر من نصف احتياطيات النقد الأجنبي في العالم.

 

وفي السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، وصلت هيمنة الإسترليني إلى ذروتها. فبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، بلغت الاحتياطيات الرسمية من الإسترليني (باستثناء تلك التي تحتفظ بها المستعمرات) في عام 1947 حوالي 87% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، وهو ما مثل أربعة أضعاف الاحتياطيات الرسمية الدولارية.

 

لكن بفضل "بريتون وودز" لم يمض الكثير قبل أن تميل الكفة لصالح الدولار، والذي تمكن من تجاوز الإسترليني لأول مرة في عام 1955 ليصبح العملة الاحتياطية الأولى في العالم. ومنذ ذلك الحين ويحتفظ الدولار بمكانته دون أي تهديد يذكر من أي منافس محتمل.

 

 

أخيراً، لو انتبه "كينز" إلى الفقرة المعدلة لعارضها ولم يكن ليوقع على الاتفاق، ولكن هذا لا يغير من حقيقية أنه وقع في نهاية المطاف على الاتفاق الذي رسخ للهيمنة العالمية للدولار الأمريكي، باعتباره العملة التي يدور في فلكها العالم منذ أكثر من نصف قرن.

 

وبالمناسبة قبل أن ننسى، من الحقائق المثيرة للسخرية أنه اتضح لاحقاً أن "هاري وايت" ممثل الأمريكيين في اجتماع "بريتون وودز" كان جاسوساً تم تجنيده من قبل الاتحاد السوفيتي ليخترق وزارة الخزانة الأمريكية، وأمد موسكو بالفعل بالكثير من المعلومات الحساسة حول خطط الأمريكيين. دمتم بخير!

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.