في الخامس عشر من يوليو/تموز 2018، أسدل الستار على بطولة كأس العالم لكرة القدم، بعد أن تمكن المنتخب الفرنسي من الفوز على نظيره الكرواتي بأربعة أهداف مقابل هدفين، لتحرز فرنسا كأس البطولة للمرة الثانية في تاريخها.
ومن بين كل الإحصاءات الخاصة بالبطولة، توجد هناك إحصائية جديرة بالذكر ومثيرة للاهتمام وهي تلك الخاصة بركلات الجزاء. فعلى مدار الجولات المختلفة للبطولة، تم احتساب 29 ركلة جزاء، دخلت 22 ركلة منها إلى المرمى، فيما تم إهدار أو صد الركلات السبع الأخرى.
وبافتراض أن الركلات السبع تم صدها جميعاً من قبل حراس المرمى، فهذا يعني أن معدل نجاح الحراس في صد تلك الضربات هو 25% فقط. ولكن الشيء اللافت للنظر هو أن حراس المرمى أثناء محاولتهم التصدي للضربات الـ29 إما سارعوا بالقفز إلى يمين المرمى أو إلى يساره. لم يقف أي منهم في مكانه بمنتصف المرمى ثابتاً، على الرغم من وجود كثير من الإحصاءات تشير إلى أن فرصة الحارس في التصدي للضربة تكون عادة أعلى إذا ظل الحارس ثابتاً في مكانه.
اتجاه التصويب ناحية المرمى
وفي الحقيقة، إن سلوك هؤلاء الحراس وطريقتهم في التصدي لتلك الضربات لها علاقة كبيرة بعلم النفس. وتفسر هذا السلوك دراسة نشرت في عام 2005 تحت عنوان "الانحياز إلى الفعل بين النخبة من حراس المرمى: حالة ركلات الجزاء".
عندما يتم احتساب ركلة جزاء، توضع الكرة على بعد 11 متراً من خط المرمى، ولا يمكن للحارس أن يتحرك من مكانه إلا بعد أن يلمس اللاعب القائم على تنفيذ الركلة الكرة. وبالنظر إلى أن متوسط عدد الأهداف في أي مباراة كرة قدم عادية يبلغ 2.5 هدف، فإن ركلة الجزاء (التي يبلغ احتمال النجاح في تسجيلها 80%) يمكنها التأثير بشكل كبير على نتيجة اللقاء.
في هذه الدراسة، قام الباحثون بفحص 311 ركلة جزاء تم احتسابها في مختلف الدوريات والبطولات العالمية الكبرى. وكانت هناك لجنة تضم ثلاثة محكمين مستقلين يقومون بتحليل اتجاه الركلة والاتجاه الذي يذهب إليه حارس المرمى حين يحاول التصدي للركلة.
لتجنب الارتباك، يمكنك التفكير في الاتجاهات (يساراً ويميناً) من منظور حارس المرمى. بشكل متساو تقريباً قام اللاعبون القائمون على تنفيذ الركلات بتوزيعها ما بين يسار ووسط ويمين المرمى. غير أن حراس المرمى، قاموا في 94% من الحالات بالقفز إما إلى اليمين أو إلى اليسار، ورفضوا الثبات في وسط المرمى.
رغم ذلك، تشير الدراسة إلى أن معدل نجاح هؤلاء الحراس في التصدي للركلات كان من الممكن أن يكون أعلى لو أنهم ظلوا واقفين كما هم في قلب المرمى. فوفقاً، للإحصاءات، عندما يبقى الحارس في منتصف المرمى، فإن هناك احتمالا قدره 60% بأن يتمكن من صد الضربات الموجهة ناحية قلب المرمى، وهذا المعدل أعلى بكثير من احتمال نجاحهم في صد الضربة إذا وجهت إلى اليمين أو اليسار.
الشاهد، هو أنه عندما تم سؤال حراس المرمى المشاركين في التجربة عن سبب ميلهم للقفز إلى يمين أو يسار المرمى بدلاً من الوقوف في المركز تمحورت أغلب إجاباتهم حول فكرة أنهم يشعرون بالتقصير إذا ظلوا ثابتين في منتصف المرمى وشاهدوا بأعينهم دخول الكرة إلى أحد أطراف المرمى، في حين أنهم حين يقفزون إلى اليمين أو اليسار يشعرون بأنهم بذلوا جهداً وفعلوا شيئاً ما بغض النظر عن الاتجاه الذي ستذهب إليه الكرة.
نفس المنطق، ينطبق على أغلب المشاركين في سوق الأسهم، وخصوصاً الهواة أو حديثي العهد منهم بالسوق.
فهم لا يرغبون فقط في الحصول على نتائج سريعة، بل يسيطر عليهم دائماً شعور بأنهم يجب أن يفعلوا شيئاً ما. بعبارة أخرى، هم لا يطيقون الجلوس على كراسيهم هادئين يراقبون الوضع في السوق بتأن وعدم اندفاع.
كن ثقيلاً
التدفقات الهائلة للمعلومات في هذا العصر تعطي انطباعا خاطئاً للكثيرين بأن المستثمرين الأذكياء دائماً يستهلكون أغلب أوقاتهم في القيام بأي شيء، وليكن البيع أو الشراء أو تعديل توازن المحفظة، وأنهم قلقون دائماً بشأن كل ما يجري حولهم سواء في الأسواق المحلية أو العالمية، ويقومون بتعديل حيازاتهم وفقاً لهذه المعلومات.
غير أن الواقع يشير إلى أن نهج كبار المستثمرين العالميين أبسط من ذلك بكثير. باختصار، هم يقومون بواجبهم التحليلي جيداً في اختيار ما يعتقدون أنها الأسهم الصحيحة، ثم يجلسون لا يفعلون أي شيء. فقط يراقبون السوق، ولا تغريهم أو تخيفهم تقلباته المؤقتة.
على سبيل المثال، في عام 1969 قام المستثمر الأمريكي الشهير "وارن بافيت" بحل شركته "بافيت بارتنرشيبس ليميتد". وما فعله "بافيت" لاحقاً كان نهجاً جديداً على المستثمرين في سوق الأسهم حينها. فعلى مدار السنوات الخمس التالية ظل الرجل لا يقوم بأي استثمارات جديدة. لم يفعل أي شيء، لا باع ولا اشترى، بل ظل ساكناً.
لكن في كثير من الحالات عدم الفعل هو فعل في حد ذاته. ظل "بافيت" ساكنا وحافظ على هدوئه رغم أن السوق عاش خلال تلك السنوات الخمس أزمة هزت أركانه وارتعدت لها فرائص الأغلبية الساحقة من المشاركين بالسوق. نتحدث هنا عن التحطم الذي شهده سوق الأسهم في الفترة ما بين يناير 1973 وديسمبر 1974.
فقط من خلال عدم القيام بأي شيء، تمكن "بافيت" من مضاعفة عوائد استثماراته بمعدلات فلكية خلال العقد التالي.
إذا كنت ترغب فعلاً في أن تصبح واحداً من مستثمري القيمة المميزين، فيجب أن تدرب نفسك على الثبات والصبر وعدم الاندفاع. معظم الناس يجدون صعوبة في امتلاك تلك المهارات، وذلك لأنهم يرغبون في المكافأة الفورية. ولكن للأسف، استثمار القيمة لا يعمل بتلك الطريقة. أنجح قصص الاستثمار التي سمعت عنها سواء في السوق المحلي أو العالمي، تطلبت وقتاً (ربما سنوات) حتى انعكست القيمة الأساسية على سعر السهم.
حول أهمية الصبر والثبات في استثمار القيمة، يقول المستثمر الأمريكي الهندي الأصل "موهنيش بابراي": "أنت لا تجني المال عند شرائك للسهم أو عند بيعه، أنت تجني المال أثناء الانتظار. إن أفضل ميزة قد يمتلكها مستثمرو القيمة ليست الذكاء وإنما الصبر والثبات".
فوز ترامب .. تكلفة الاندفاع
في مساء الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، سيطرت حالة من الخوف والفزع على المستثمرين في مختلف أسواق الأسهم العالمية، وبالأخص في السوق الأمريكي بعد أن صدم الجميع بفوز رجل الأعمال الأمريكي المثير للجدل "دونالد ترامب" بالانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تنافس خلالها مع "هيلاري كلينتون".
في اليوم التالي، اندفعت أعداد كبيرة من المستثمرين في بورصة نيويورك إلى التخلص من حيازاتها أو تقليل تعرضها للأسهم ونقل السيولة إلى أسواق السندات والسلع أو تحويلها إلى كاش، لأنهم اعتقدوا أن فوز "ترامب" هو بداية السقوط، ويجب عليهم أن يقفزوا من السفينة قبل أن تغرق بهم.
عن تلك الفترة تحكي "ربيكا إل كينيدي" مؤسسة ومديرة شركة "كينيدي فاينانشيال بلانينج" في تصريحات لـ"بيزنس إنسايدر" قائلة : "في اليوم التالي للانتخابات اتصل بي الكثير من العملاء الغاضبين والخائفين الذين يرغبون في تصفية كل حيازاتهم وتحويلها إلى كاش. ولكنني حاولت جاهدة أن أثنيهم عن القيام بذلك".
أثناء محاولتها تهدئة عملائها المضطربين الذين يرغبون فقط في التخلص من كل شيء قالت "كينيدي" :" لا أدعي معرفتي بما قد تحمله إدارة ترامب لنا. لكنْ هناك شيء واحد أستطيع أن أؤكده لك، وهو أن الأفق الزمني لمحفظتك من المحتمل أن يكون أطول من مدة بقاء ترامب في منصبه (4 سنوات)."
كل من اندفع ولم يصبر وقام ببيع أسهمه في تلك الفترة، إما خسر أموالاً أو فوت فرصة تحقيق مكاسب كبيرة. يكفي أن تعرف أن مؤشر "داو جونز" الصناعي ارتفع وحده بنسبة 31% خلال السنة الأولى لـ"ترامب". بينما شهدت قيمة مؤشر "إس آند بي 500" زيادة قدرها 23% خلال نفس الفترة.
كمستثمر في سوق الأسهم، يجب أن تدرك حقيقة هامة جداً حين يتعرض السوق لهزة تهبط خلالها الأسعار، وهي أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يهبط فيها السوق بسبب أخبار غير متوقعة، ولن تكون كذلك الأخيرة. والفكرة كلها هي كيف سترد كمستثمر أو كيف ستتعامل مع تلك الهزات؟
عند هبوط سعر السهم، رد الفعل الغريزي لدى أي مستثمر يحتفظ بهذا السهم في محفظته هو البيع. وفي الحقيقة إن البيع ربما يكون هو الخيار الأنسب إذا لم يكن المستثمر قد قام باختيار السهم بشكل صحيح، أي أنه كان هناك قصور من جانبه في عملية التحليل. لكن إذا كنت تثق في أساسيات السهم، فلا يجب أن تقلقك تلك التقلبات المؤقتة.
أيضاً من بين الأسباب التي تحد من قدرة المستثمر على الصبر والثبات، هي تحققه المستمر من أداء المحفظة في حين أن من مصلحته أن يبتعد عنها بمجرد أن يختار ما يعتقد أنها أسهم جيدة ويتفقدها على مدار فترات متباعدة. فإذا كنت تتفقد أداء المحفظة بشكل يومي مثلاً، فستجد نفسك تميل بشكل طبيعي إلى تعديلها تبعاً لتقلبات السوق. وهذا يفسر سبب قيام العديد من كبار المستثمرين بتعديل المحفظة مرتين فقط في العام على سبيل المثال.
متى تحتفظ بسهم خاسر؟
البعض هنا قد يتساءل: ولماذا احتفظ بسهم يخسر أو هبط سعره؟ هناك طريقة ربما تساعدك كمستثمر على الثبات وعدم التسرع في الرد على التقلبات المؤقتة للسوق. لنفترض مثلاً أنك تستثمر في واحدة من شركات الإسمنت العاملة بالسوق السعودي. وأنت حين اخترت ذلك السهم، اخترته بناء على تحليل قادك إلى استنتاج أن تلك الشركة تتمتع بميزة تنافسية على الشركات العاملة بنفس القطاع، وبالتالي فإن آفاق توسعها كبيرة.
بعد ذلك بشهر، تعرض السهم لموجة بيع كبيرة وخسر 5% من قيمته على خلفية كشف الشركة عن أرباح جاءت دون المتوقع. كيف تتصرف حينها؟ كل ما عليك فعله هو النظر إلى السبب الذي جعلك تستثمر في الشركة من الأساس والتحقق مما إذا كان لا يزال قائماً. هل لا زالت الشركة تحتفظ بميزتها التنافسية؟ إذا كانت الإجابة بنعم فليس من الحكمة أن تتخلى عن السهم.
في النصف الأول من عام 2012، شعر المستثمرون في هونج كونج بالقلق تجاه مستقبل أسواق الأسهم بعد هبوط أسعارها، حيث كانت الأسواق حينها لا تزال تحاول التعافي من أثار أزمة عام 2008.
على نحو لافت، قام معظم المستثمرين في بورصة هونج كونج بسحب أموالهم من الأسهم، وإعادة ضخها في أسواق السندات والسلع باعتبارها ملاذات آمنة وأيضاً نحو صناديق الأسهم الروسية، وذلك وفقاً لتحليل أجرته شركة الأبحاث "رويال أسكنديا".
الطريف هو أن سوق الأسهم (باستثناء قطاع الطاقة) الذي تخلى عنه المستثمرون حقق عوائد قياسية خلال تلك الفترة. فعلى سبيل المثال شهدت أسهم شركات القطاع الصحي ارتفاعاً قدره 11% في حين شهدت صناديق الأسهم الاستثمارية نمواً يبدأ من 3%.
في المقابل، حققت صناديق السندات عوائد ضعيفة، في حين كان أداء السلع التي لجأ إليها الكثيرون هرباً من الأسهم سيئاً، حيث خسرت ما يزيد على 7% من قيمتها، كما حققت صناديق الأسهم الروسية عوائد سلبية.
الشاهد هو أن هؤلاء المستثمرين لو لم يستسلموا لخوفهم وقلقهم وجلسوا لا يفعلون شيئاً ومشوا في ركاب السوق لكانوا حققوا مكاسب معتبرة.
الكثير من المستثمرين لا يستطيعون أن يقاوموا الرغبة في البيع أو الشراء، وذلك بسبب افتقارهم للقدرة على تجاهل الضوضاء والتركيز على المدى الطويل، وهو ما يؤدي إلى إفراطهم في التداول. الإفراط بالتداول سواء كان سببه الملل أو الثقة المفرطة أو حتى الذعر غير المبرر تغذيه الرغبة لدينا في الإحساس بالسيطرة.
كل المستثمرين الكبار الذين تسمع قصص نجاحهم باستمرار مثل "وارن بافيت" و"جون تمبلتون" قاموا ببناء ثرواتهم الهائلة من خلال اتباع نهج بسيط جداً ملخصه كالآتي: شراء الأسهم الجيدة أثناء هبوط السوق ثم الاحتفاظ بها إلى أن تصل أسعارها إلى مستويات قياسية. وخلال تلك الفترة، لم يفعلوا أي شيء يذكر. فقط يجمعون التوزيعات ويعيدون استثمارها ويستمتعون بمشاهدة قيمة أسهمهم ترتفع.
باختصار، الثبات وعدم القيام بأي شيء ربما يكون صعباً، ولكنه على المدى الطويل مربح.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}