نبض أرقام
07:34 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/12/18
2024/12/17

لا تعطني سمكة! .. كيف يمكن للأموال الخيرية أن تمنح الفقراء فرصاً حقيقية؟

2018/08/18 أرقام - خاص

في عام 2005، التقى "فرانك ريبود" الرئيس التنفيذي لشركة الصناعات الغذائية الفرنسية "دانون" بالصدفة مع البروفيسور "محمد يونس" أستاذ الاقتصاد السابق في جامعة شيتاجونج – واحدة من أكبر الجامعات في بنجلاديش –  ومؤسس بنك جرامين والحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 2006.

 

تصافح الرجلان، واتفقا على أن يلتقيا مرة أخرى. وبالفعل، في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام قام "ريبود" بدعوة "يونس" لتناول الغداء معه في العاصمة الفرنسية باريس. على مائدة الغداء اتفق الاثنان على دخول كل من بنك "جرامين" وشركة "دانون" في مشروع مشترك غير هادف للربح لمساعدة فقراء بنجلاديش.

 

 

كان الاتفاق ينص على أن تكون الشراكة بالتساوي، بحيث يدفع بنك "جرامين" مبلغ 500 ألف يورو، وتوفر "دانون" مثله. حين جاء موعد التنفيذ، لم يكن لدى بنك "جرامين" مشكلة في توفير ذلك المبلغ، المشكلة كانت لدى "دانون" والتي لم تتمكن من توفير قيمة نصيبها من الشراكة. ولكن كيف هذا؟

 

مرت أسابيع وأشهر تهربت خلالها "دانون" من دفع المبلغ دون أن توضح السبب، قبل أن تكشف في النهاية عن أن السبب هو محامو الشركة الذين اعترضوا بحجة أن أموال الشركة تخص مساهميها، وبالتالي لا يمكنهم استخدامها في استثمارات لن تولد لهم أي أرباح.

 

المساهمون يوفرون 70 ضعف المبلغ!

 

لكن القصة لم تنته هنا. فقد حاولت إدارة "دانون" التوصل إلى أي حل لهذا الوضع، وهو ما تمكنت منه بالفعل. قامت الشركة بإرسال رسالة إلى جميع المساهمين قبل الاجتماع السنوي العام تخبرهم فيها بالآتي: نحن نريد أن ندخل في مشروع مشترك في بنجلاديش يتعامل مع مشكلة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، وإذا كنت ترغب في أن يتم استخدام جزء من نصيبك من الأرباح في الاستثمار في هذه الشراكة، فنرجو منك أن تسجل اسمك وأن تخبرنا بالنسبة التي ترغب المشاركة بها.

 

98 % من مساهمي الشركة وافقوا على الاستثمار في ذلك المشروع غير الهادف للربح، وبلغ مجموع الأموال التي أبدوا استعدادهم لاستثمارها فيه 35 مليون يورو، أي 70 ضعف المبلغ الذي أملت إدارة الشركة أن تجمعه لتغطي نصيبها في تلك الشراكة.

 

انطلق المشروع بعد أن تجاوز عقبة التمويل، وفي عام 2006 تم افتتاح مصنع للزبادي مساحته 7.5 ألف قدم مربعة وبطاقة إنتاجية سنوية قدرها 3 آلاف طن، ويعمل بالطاقة الشمسية ويقع على بعد 220 كم من غرب العاصمة دكا. وفي فبراير/شباط 2007 بدأ الإنتاج.

 

 

"دانون" تعتبر واحدة من أكبر شركات الصناعات الغذائية في العالم، وتمتلك أحدث تقنيات الإنتاج، ولكن رغم ذلك تعمد الشريكان أن يتم تجهيز المصنع بالحد الأدنى من الأجهزة الآلية والآلات المعقدة، وذلك بغرض خلق الحاجة إلى العمالة وبالتالي خلق المزيد من فرص العمل المحلية. وفي نفس الوقت تم منح تلك العمالة أجوراً عالية.

 

الحليب الذي كان يستخدم في إنتاج الزبادي كانت الشركة تشتريه من المزارع المحلية الصغيرة. والمنتج نفسه كان يتم تسويقه داخل القرى والأحياء الصغيرة من قبل السيدات المقيمات في تلك الأماكن، واللاتي تحصلن على عمولة تتناسب مع حجم مبيعاتهن. وأي أرباح يحققها المشروع يتم إعادة ضخها في استثمارات جديدة، ولا تذهب أي أرباح إلى الشريكين "جرمين" أو "دانون".

 

رأس المال المبدئي لهذا المشروع كان مليون يورو فقط. ولكن بدلاً من أن يتم توزيعه على الفقراء – الذين يعف الكثيرون منهم عن السؤال – في صورة مساعدات عينية يضعها البعض في أيديهم أمام الكاميرات، قام الشريكان باستخدام هذا المبلغ في خلق نظام اقتصادي صغير ولكنه قادر على النمو عضوياً، تم خلاله توظيف مجهود وموارد الفقراء الذين لا يرغبون بالتأكيد في أن يكونوا من مستحقي الإحسان من هذا أو من ذاك.

 

عن هذه الفكرة يقول "يونس": "إن الفقر لم يخلقه الفقراء، وإنما النظام (الاقتصادي) هو من خلق الفقر ... إذا لم تغير النظام، فلن تقضي على الفقر. كلنا نولد رجال أعمال، لكن البعض يحصلون على فرصة لإطلاق هذه القدرة، بينما يوجد آخرون ليسوا بنفس الحظ، أو لا يعرفون أنهم يمتلكون هذه القدرة أصلاً."

 

ما علاقتنا بهذا الموضوع؟

 

لكن لماذا نتحدث عن هذا الموضوع؟ ببساطة لأن مجتمعاتنا العربية والإسلامية أكثر حاجة من غيرها لاتباع هذا النهج، من أجل ضمان أفضل استغلال للمليارات التي يتم منحها للغير بشكل طوعي كل عام في صورة زكاة أو صدقات أو تبرعات خيرية.

 

في عام 2015 وحده تراوحت القيمة الإجمالية للتبرعات الخاصة التي قام بها المسلمون في جميع أنحاء العالم ما بين 232 و560 مليار دولار، وذلك وفقاً لما ذكره تقرير صادر عن الأمم المتحدة نقلاً عن أبحاث خاصة بالبنك الإسلامي للتنمية. وأغلب هذه الأموال يذهب إلى المؤسسات الخيرية التي تساعد الفقراء والمحتاجين.

 

حجم ما يمكن إنجازه بجزء صغير فقط من هذه الأموال لو استخدم في خلق نشاط اقتصادي لا يمكنك تصوره.

 

ببساطة، إن العيب الرئيسي في الكثير من الأنظمة الاقتصادية هو وجود عدد محدود جداً من الفرص المتاحة للفقراء لكي يحصلوا على رأس مال يمكنهم من شق طريقهم والاعتماد على أنفسهم.

 

 

بعبارة أخرى، المال يولد المال، وإذا لم يتم منح الفقراء الفرصة لجني المال بأنفسهم سيظلون دائماً تحت رحمة من يحسن إليهم. وغياب هذا النهج هو السبب في أن الصورة النمطية المترسخة في أذهان كثيرين حول كيفية مساعدة الفقراء هي إما من خلال الطعام أو الملابس أو أي مساعدات عينية أخرى.

 

تعاني السنغال من عجز غذائي، ولكنها في نفس الوقت تنتج كميات من الملح أكثر مما تحتاج إليه. لكن توجد مشكلة، وهي أن هذا الملح غير معالج باليود، وهذا هو السبب في أن الكثير من السنغاليين يعانون من الاضطرابات الصحية الناجمة عن نقص اليود مثل تضخم الغدة الدرقية والذي يسبب أضراراً مستدامة في الصحة العقلية والجسدية للأطفال.

 

ثم جاء برنامج الأغذية العالمي ووفر لنحو 7 آلاف قرية سنغالية الأدوات اللازمة لمعالجة الملح باليود وقرر شراء كامل إنتاجهم. وهكذا تمكن سكان تلك القرى وخصوصاً النساء منهم من تأمين دخل ثابت ومساعدة أنفسهم وفي نفس الوقت حافظوا على كرامتهم الشخصية دون أن يحنوا رؤوسهم أو يجدوا أنفسهم مضطرين للتعبير عن امتنانهم لهذا أو لذاك.

 

هل يكفي أن نعلمهم الصيد؟

 

هناك مثال صيني قديم يعرفه أغلبنا اعتاد الرئيس الصيني السابق "ماو تسي تونج" ترديده، يقول: " لو أطعمت رجلا سمكة فإنه يأكل ليوم، أما إذا علمته كيف يصطاد السمك فسيأكل كل يوم". فكرة هذا المثل، هو أنك إذا علمته الصيد فلن يعتمد عليك بعد الآن، سيصطاد بنفسه، ولن يبيت ليله قلقاً يفكر في ما إذا كنت ستعطيه أنت أو غيرك غداً أو ستنسونه.

 

لكن حين نتحدث عن الفقر في ظل العصر والمجتمعات الحالية فإن فكرة هذا المثل أعقد من ذلك وتتجاوز هذا التفسير السطحي الساذج بكثير. الفكرة التي تقفز في أذهان كثيرين هي أن الأغنياء منا يعرفون كيف يصطادون في حين أن الفقراء لا يعرفون. أي أن الفقر ما هو إلا مشكلة تعليم. وبالتالي، إذا علمناهم الصيد فسيكون كل شيء على ما يرام، أليس كذلك؟

 

بالطبع لا، الفقر أو مسبباته أعمق من مشكلة التعليم بكثير. الفقر هو نتاج غياب الفرص أو نتاج عدم تكافؤها إن وجدت. هل تعلم أن ذلك الفقير من الممكن أن يتعلم الصيد ويصبح أكثر مهارة من معلمه ورغم ذلك يبقى فقيرا؟ تعليمه كيفية الصيد هو مجرد أحد الأشياء التي يحتاجها لكي يغادر هذا المستنقع.

 

ألا يحتاج هذا الفقير لمعدات تمكنه من الصيد؟ وإذا أراد أن يحصل على رأس مال لشراء ما يحتاجه من المعدات سيواجه مشكلة حين يتوجه إلى البنوك التي ترفض طلبه لأنه لا يتمتع بالملاءة المالية الكافية ولا يمتلك أية ضمانات. كل ما يحتاجه هذا الفقير هو خط ائتماني صغير جداً يمكنه من شراء ما يحتاج إليه لشق طريقه.

 

 

هذا الفقير لا يمكنه اللجوء إلى الجمعيات الخيرية التي تضع يدها على كميات معتبرة من الأموال، ولكنها تتبع الأسلوب التقليدي في المساعدة المتمثل في توفير المساعدات العينية مثل الطعام والملبس. وحال ذلك الفقير مع البنك حال حديث التخرج الذي كلما تقدم لوظيفة طلبوا منه خبرة 5 سنوات على الأقل، ولكن كيف يجنيها إذا لم يتم توظيفه من الأساس؟ وهؤلاء الذين يمتلكون بالفعل هذا القدر من الخبرة كيف حصلوا على وظائفهم قبل 5 سنوات؟

 

أيضاً بغض النظر عن مهارتهم في الصيد، سيظل الفقراء فقراء إذا لم يتمكنوا من الوصول إلى النهر. هم يحتاجون إلى من يحمي حقهم في الصيد. وحول هذه النقطة يقول الأمريكي "جون بيركنز": "الأمر كله كذبة. إن من يملك النهر هو من يقرر من سيحصل على السمك."

 

في وضع معقد مثل هذا يمكن للأموال الخيرية أن تحدث فارقاً كبيراً، ولكن بشرط أن يتم استخدامها في خلق نشاط اقتصادي حقيقي يتم منح الفقراء فرصة المشاركة فيه. بعبارة أخرى، هم لا يريدون سمككم، هم يحتاجون فقط إلى من يعلمهم الصيد ويساعدهم في شراء أدواته ويفسح الطريق أمامهم ليصلوا إلى النهر مثلهم مثل غيرهم.

 

ومرة أخرى، الفقر ما هو إلا نتاج غياب الفرص أو غياب تكافؤها إن وجدت. دمتم بخير.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.