في الثالث والعشرين من أبريل/نيسان 2017، دشنت السوق المالية السعودية "تداول" آلية البيع على المكشوف للأسهم، وذلك في إطار سعيها لموافقة المعايير الدولية التي يتم تطبيقها في أسواق الأوراق المالية الأخرى، وهو ما يزيد من فرص إدراج السوق ضمن المؤشرات العالمية المعروفة.
يقصد بالبيع على المكشوف قيام المستثمر أو بالأحرى المضارب ببيع ورقة مالية لا يملكها قام باقتراضها من إحدى شركات الوساطة، بهدف شرائها لاحقاً بسعر أقل، وذلك على خلفية توقعه لاتجاه سعر تلك الورقة للانخفاض.
وإذا صحت توقعاته وانخفضت قيمة الورقة المالية، فيمكنه تحقيق ربح مساو للفرق بين سعر البيع المكشوف وسعر الشراء مطروحاً منه الفائدة التي يدفعها إلى شركة الوساطة نظير اقتراض الورقة المالية في الفترة ما بين البيع والشراء.
كيف تربح من انخفاض سعر السهم؟
في الحقيقة، يصعب على الغالبية العظمى من العامة الذين لا علاقة لهم بسوق الأوراق المالية فهم المنطق الكامن وراء آلية البيع على المكشوف. فهم لا يستطيعون استيعاب كيف يمكن لشخص ما أن يبيع شيئا لا يملكه، أو كيف يمكنه أن يكسب المال من خلال انخفاض قيمة ذلك الشيء.
وربما أفضل طريقة لشرح كيفية عمل تلك الآلية لهؤلاء الناس هي من خلال إخبارهم بأنه لا توجد بالفعل سوى طريقة واحدة لكسب المال في السوق، وهي من خلال الشراء بسعر منخفض ثم البيع بسعر أعلى. غير أن الأمور في سوق الأسهم لا تمضي دائماً بذلك الترتيب. بمعنى أنه يمكنك أن تبيع أولاً ثم تشتري لاحقاً.
ببساطة، لنفترض أن سعر سهم الشركة "س" يساوي 100 ريال، وهناك أحد المضاربين يتوقع اتجاه سعر ذلك السهم نحو الانخفاض. وعلى الرغم من أن هذا الشخص لا يمتلك هذه الأسهم إلا أنه يعطي للسمسار أمراً ببيع 500 سهم بالسعر الحالي (100 ريال).
إذا لم تكن هذه الأسهم موجودة بالفعل في محفظته، فسيقوم السمسار باقتراضها من شخص آخر، قبل أن يبحث عن مشتر لهذا العدد من أسهم الشركة "س" مقابل 50 ألف ريال (500 سهم ضرب 100 ريال) للتعاقد معه واستلام المبلغ.
إذا ما صحت توقعات المضارب، وانخفض سعر السهم إلى 75 ريال مثلاً، فسيقوم السمسار بشراء الأسهم من السوق مقابل 37.5 ألف ريال (500 سهم ضرب 75 ريالا) وتسليمها للمقرض، والذي سيحصل على نسبة معينة مقابل إقراض تلك الأسهم. وإذا افترضنا أن المقرض حصل على مبلغ قدره 2.5 ألف ريال، فإن صافي ربح المضارب سيكون 10 آلاف ريال (50000 – 37500 – 2500).
ولكن بعيداً عن تلك الزاوية، سنحاول في هذا التقرير استعراض أحد أشهر أساليب الاحتيال المرتبطة بتلك الآلية، وهو "البيع على المكشوف والتشويه" أو (Short and Distort)، وهو عكس أسلوب الضخ والتفريغ (Pump and dump) الذي تناولناه في تقرير سابق.
"البيع على المكشوف والتشويه" هي ممارسة غير قانونية يستخدمها بعض المضاربين الذين يقومون ببيع السهم على المكشوف قبل أن يقوموا بنشر شائعات سلبية لا أساس لها حول الشركة المستهدفة، في محاولة لخفض سعر سهم تلك الشركة. وعندما يحدث ذلك يقومون بشراء السهم وتغطية مراكزهم المكشوفة، ويحققون الأرباح.
وعلى الرغم من أن هناك عدداً من القيود المفروضة على آلية البيع على المكشوف في السوق السعودية التي تشمل على سبيل المثال، إبعاد المستثمرين الأفراد عن تلك الآلية واقتصار حق استخدامها على أنواع محددة من المستثمرين مثل الصناديق، واحتفاظ البورصة بحقها في تحديد أي الأسهم يمكن بيعها على المكشوف، إلا أن المنطق الكامن وراء أسلوب "البيع على المكشوف والتشويه" لا يزال صالحاً ويمكن سحبه على الآلية بشكلها الحالي.
انهيار "جيه بي مورجان"!
في الثاني والعشرين من يوليو/تموز 2002، خضع بنك الاستثمار الأمريكي "جيه بي مورجان" لتحقيق من قبل إحدى اللجان الفرعية بمجلس الشيوخ، تتضمن تساؤلات حول الدور الذي لعبه البنك في مساعدة شركة الطاقة الأمريكية المعلن إفلاسها "إنرون" في بناء (متاهة) من المعاملات المالية المريبة.
المستثمرون الذين شاهدوا بأعينهم ما حدث لشركة الخدمات المحاسبية "آرثر آندرسون" على خلفية تورطها بتلك الفضيحة التقط بعضهم هذه المعلومة، وقام ببيع سهم البنك على المكشوف وبدأ في نسج شائعات تسببت في انخفاض سعر السهم إلى مستويات قياسية.
في اليوم التالي لتلك الجلسة، ساءت الأمور بالنسبة للبنك، على خلفية اتساع رقعة الشائعات، والتي تضمنت على سبيل المثال، اتجاه السلطات الأمريكية لمقاضاة البنك جنائياً وفرض غرامات ضخمة عليه وتكبده لخسائر ضخمة في عقود المشتقات. أما الإشاعة الأكثر غرابة، فأشارت إلى أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي عقد اجتماعاً طارئاً لبحث كيفية معالجة التداعيات المحتملة للإجراءات المزمع اتخاذها ضد البنك.
بالطبع، لم يكن لأي من هذه الشائعات أساس من الصحة، ولكنها رغم ذلك انتشرت كالنار في الهشيم بدرجة جعلت جزءًا كبيرًا من المتعاملين في السوق يعتقدون أن "جيه بي مورجان" يواجه أزمة في السيولة، وأنه ربما لا يمتلك ما يكفي من المال للوفاء بالتزاماته. انخفض سعر السهم في ذلك اليوم إلى أدنى مستوى له في 6 سنوات. وفي نفس اللحظة، قام المضاربون الذين باعوا السهم على المكشوف بتغطية مراكزهم، ومضوا في طريقهم.
في كتابه الشهير "سيكولوجية الإشاعة" أشار "جوردن ألبورت" إلى أن الإشاعات تميل إلى الازدهار والانتشار عندما تكون هناك ندرة أو تخمة في الأخبار. والنتيجة هي أن رد فعل السوق على الأخبار السلبية غير المؤكدة أسرع وأكثر دراماتيكية من رد فعله تجاه الأخبار الإيجابية المؤكدة.
خسر 29% من قيمته في يوم واحد
في أكتوبر/تشرين الأول 2016، نشر شخص يستخدم الاسم المستعار "أوريليوس" مقالة على موقع "سيكينج ألفا" عن "بنك أوف كاليفورنيا" زعم خلالها أن مديري الشركة لديهم علاقات مع رجل مسجون. في لمح البصر، تناولت وسائل الإعلام الرئيسية القصة المزعومة، وهو ما منح المصداقية لادعاءات "أوريليوس".
في اليوم التالي لنشر تلك المقالة، خسر السهم 29% من قيمته، متراجعاً إلى أدنى مستوى له منذ عام 2002. وفي محاولة للسيطرة على الوضع، أرسل البنك طلباً إلى "سيكينج ألفا" يطلب منه حذف المقالة، قبل أن يصدر بياناً صحفياً يشير خلاله إلى اعتزامه فتح تحقيق داخلي للتأكد من مدى صحة الادعاءات.
على الرغم من أن التحقيق انتهى إلى أنه لا يوجد أي دليل على وقوع أي مخالفات، استقال الرئيس التنفيذي للبنك ونائبه من منصبيهما، وأعلنت الشركة أنها تخضع للتحقيق من قبل لجنة الأوراق المالية والبورصات. واتضح لاحقاً أن كاتب المقالة قام ببيع سهم البنك على المكشوف.
خيارات الردع
بالنسبة للشركات، هناك عدد من الخيارات المختلفة للرد على الشائعات التي يطلقها بائعو السهم على المكشوف. الخيار الأول يتمثل في عدم قيام الشركة بأي شيء. وقد تكون هذه الاستراتيجية فعالة إذا كان المهاجم يفتقر إلى المصداقية أو إذا كانت الشركة واثقة في تقييم السوق لها، وأنه حتى لو استجاب السوق بشكل عرضي لتلك الشائعات فسوف يعود ليصحح نفسه بسرعة ويرفض تلك الادعاءات. وربما الميزة الأهم لهذا الأسلوب، هي أن الشركة تتجنب بذلك لفت انتباه السوق إلى المهاجم.
الخيار الثاني، يتمثل في قيام الشركة بإصدار رد محدود يهاجم أهم الادعاءات، أو يشكك في مصداقية المهاجم نفسه، وذلك بغرض منع تسلل أي مخاوف إلى نفوس المستثمرين والحفاظ على ثقة السوق بالشركة. أما الخيار الثالث والأخير، فيتمثل في قيام الشركة بالاشتباك المباشر مع المهاجم وتفنيد مزاعمه واحداً تلو الآخر، والشروع في مقاضاته.
لكن في نفس الوقت، يجب على إدارة الشركة أن تفكر جيداً قبل أن تتخذ قراراً بشأن ردها العلني على الشائعات. أحياناً يندفع البعض إلى الرد بشكل فوري على أي شائعة من أجل طمأنة حاملي الأسهم وحماية سعر السهم. ولكن هذا غالباً ما يكون النهج الخاطئ.
الرد العلني على الهجوم أو الشائعات السلبية غالباً ما يعطي مصداقية لمصدر الشائعة وهم هؤلاء الذين قاموا ببيع السهم على المكشوف. والأكثر خطورة هو أن من لم يسمع بتلك الإشاعة من مصدرها، سيسمعها من الشركة. وبغض النظر عن صحتها ستكتسب تلك الشائعة زخماً.
لكن من ناحية أخرى، إذا أعدت الشركة جيداً لردها، وقامت خلاله بتفنيد الادعاءات المزعومة بشكل مرتب ومقنع، فستكون قادرة على ردع الهجوم في بدايته، ووأد أي محاولة للمضاربة على السهم.
وبغض النظر عن الطريقة التي ستتعامل بها الشركة مع تلك المواقف، يجب عليها أن تحصن نفسها بقدر الإمكان من آثار هذا النوع من الهجمات.
أهم خطوة وقائية قد تقوم بها أي شركة في هذا الشأن، هي قيامها بتطوير وسائل تواصل فعالة مع مساهميها، من شأنها أن تجعلهم على اطلاع بكل المستجدات. هذا النهج يجعل المساهمين أكثر ثقة ودعماً للإدارة، وهو ما يحول دون تعرض السهم لهزات عنيفة لمجرد انتشار شائعة لا أساس لها.
أخيراً، أسلوب "البيع على المكشوف والتشويه" لديه القدرة على ضرب سعر سهم أي شركة مساهمة – كبيرة كانت أو صغيرة – أو على الأقل التسبب في تقلب السهم لأشهر وربما لسنوات. لذلك، يجب أن يكون لدى الشركات المدرجة في البورصة خطة دفاعية، وأن تكون مستعدة للتعامل مع مثل هذه المواقف، حتى لا تجد نفسها حينها مضطرة للارتجال، وهو ما قد يؤذي سعر الشركة ومساهميها.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}