مع طغيان الأنظمة الرأسمالية في مختلف الدول، هناك أسئلة تتردد باستمرار، كيف يمكن أن تستمر الأسواق الحرة دون أن تتعارض مع تشريعات الدول، وإلى أي مدى يجب ترك الأسواق لتعمل بحرية ومتى يجب أن تتدخل الدولة؟
وفي محاولة للإجابة على هذا السؤال (القديم الجديد) قدم الكاتب الاقتصادي الشهير "بول دو جراو" كتابه (حدود السوق: بندول التوازن بين الدولة والأسواق)، ليصبح أحد أكثر الكتب مبيعًا في أواخر عام 2017 وبدايات العام الحالي.
الحاجة لسياسات جديدة
في نهاية ثمانينيات القرن الماضي انهار الاتحاد السوفيتي بالأساس بسبب فشل نظامه الاقتصادي الشيوعي، والذي يقوم على تحكم الدولة في الاقتصاد، غير أن الدول الرأسمالية اضطرت قبل بداية العقد الحالي إلى التدخل بقوة لتلافي انهيار الاقتصاد مع الأزمة المالية التي حدثت بسبب ترك الأسواق حرة تمامًا.
لذا يرى "دي جراو" أن هناك حاجة ماسة في مختلف أنحاء العالم للتوصل إلى صيغة مناسبة تسمح باقتصاد أكثر عدالة، دون أن تتسبب السياسات الحكومية "غير الرشيدة" في تقويض النمو الاقتصادي أو في فرض أجندة سياسية سيئة عليه.
لذا فعلى الحكومات دائمًا الاهتمام بما لن تهتم الشركات به، بمعنى ملء الفراغ الذي تخلفه الأخيرة، ويطرح "دي جراو" مثالًا بالبيئة، فالشركات لن تهتم أبدًا بالاحتباس الحراري إلا في مبادرات فردية ضيقة من جانب بعض الشركات الرائدة فقط.
فالدول لا تقيد الشركات كما ينبغي في مجال البيئة، والدليل على ذلك هو استمرار مستويات التلوث في الارتفاع، وعلى الرغم من أن الحكومات تبرر قلة اهتمامها بهذا الملف بالرغبة في الإبقاء على النمو الاقتصادي مرتفعًا غير أن التأثير على هذا النمو سيكون لفترة قصيرة وحتى تتكيف نظم الإنتاج على المعايير البيئية الجيدة.
لهذا تفشل الحكومات
ولا تقتصر المجالات التي يجب أن تتدخل فيها الدولة، ولا تتركها للأسواق على البيئة، لكنها تمتد لمكافحة عدم العدالة في توزيع الثروة، والعمل على الاستقرار المالي للأسواق المختلفة، وضمان توافر السلع ذات الأهمية الاستراتيجية في الأسواق.
كل هذا يعترضه أكثر من عائق، أهمها جهل الحكومات بما ينبغي عمله لمواجهة بعض المشكلات، وحجم التدخل المطلوب الذي يحقق الأهداف العامة ولكنه في الوقت نفسه لا يقوض عمل الأسواق.
كما أن الحكومات تواجه أزمة لرغبتها في إعادة اختيارها مجددًا من قبل الناخبين، بما يدفعها لاتباع سياسات قد لا تكون الأكثر فاعلية وفائدة للاقتصاد بشكل عام ولكنها السياسات "المرغوبة" من قبل الغالبية.
وعلى الجانب المقابل، فإن ارتباطات الحكومات بالشركات من حيث تبرعات الأخيرة للحملات الانتخابية للأحزاب والسياسيين، وتداخل السلطة والثروة، يدفع الحكومات في كثير من الأحيان للعمل على تحقيق مصلحة الأسواق والشركات على حساب الاقتصاد ككل أو على حساب "الأهداف العامة" كالحفاظ على البيئة وغيرها.
ويرى "دي جراو" أن الحكومات بحاجة إلى إعادة قدر كبير من السياسات المقيدة للأسواق، حيث إن الأزمة التي تعترض الاقتصاد العالمي بشكل عام هذه الأيام هي انعدام التوازن الاقتصادي وحالة من غياب الاستقرار المالي.
الرأسمالية في خطر
النظام الرأسمالي وصل إلى حالة من التطرف التي يجب أن تتوقف معها الحكومات، ليس لمواجهة الأسواق فحسب ولكن للتعاون مع بعضها البعض لمواجهة ظاهرة تغوّل الشركات والأسواق عالميًا، ويحذر الكاتب من أن استمرار الوضع على ما هو عليه من شأنه أن يقضي على الرأسمالية إن آجلا أو عاجلًا مثلما سقطت الشيوعية.
ويبدي "دي جراو" تخوفه من أن اختيار "ترامب" رئيسًا للولايات المتحدة وتصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي مؤشرات غير مشجعة على فهم العامة لحتمية الائتلاف والتعاون لمواجهة الأزمات ذات الطابع الكوني.
ومع استمرار صعود اليمين المتطرف سياسيًا في أكثر من دولة من دول العالم المتقدم، فإن تلك الدول ستجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: إما القبول بالعودة للنظم السلطوية التي تفرض قواعدها على الجميع من (أفراد وشركات) أو القبول بكوارث بيئية ومجتمع يزداد انقسامًا يومًا بعد يوم.
وعلى الرغم من مخاوفه وتحذيراته الكثيرة، إلا أن "دي جراو" يرى أن الأوان لم يمض بعد ليعمل النظام الرأسمالي على تصحيح أخطائه، شريطة أن يدرك الناخبون وهم يدلون بأصواتهم أنها تتخطى تقرير نسبة خفض أو زيادة الضرائب إلى أمور أهم وعلى رأسها بقاء النظام الذي يحيون في ظله مستقرًا.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}