قبل أكثر من 2400 عام، تفاقمت الخلافات السياسية بين أثينا القديمة وجارتها "ميجارا"، وحينها اجتمع مجلس الحكم للمدينة الأغريقية واستعرض خياراته لمواجهة "ميجارا" وبعد استبعاد العمل العسكري، أقرت أثينا أول تجربة تم رصدها للعقوبات الاقتصادية تاريخيا بأن فرضت على جارتها حظرًا تجاريًا.
وعلى الرغم من أن العالم شهد بعد ذلك عقوبات اقتصادية متعددة وكثيرة، إلا أن استخدامها زاد في ظل الاقتصاد الحديث وتحديدًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بداية تسعينيات القرن الماضي وتحول العالم أجمع إلى السياسات الرأسمالية الاقتصادية.
500 حالة عقوبات اقتصادية خلال 30 عامًا
العقوبات الاقتصادية هي من أدوات السياسة الخارجية، وتلي في الترتيب الدبلوماسية والمعونات الاقتصادية والعسكرية، وتسبق القوة العسكرية، ومع الميل لصراعات عسكرية أقل (بين القوى الكبرى على وجه الخصوص) أصبحت العقوبات الاقتصادية الأداة الأكثر استخدامًا.
ويشير تقرير لموقع "وورلد فاينانس" إلى أن الولايات المتحدة وأوروبا قاما بفرض عقوبات اقتصادية بأشكالها المتنوعة أكثر من 500 مرة خلال الأعوام الثلاثين المنصرمة، سواء بشكل منفرد أو من خلال حلف شمال الأطلنطي أو مجلس الأمن والأمم المتحدة.
وتتخذ العقوبات الاقتصادية أكثر من شكل، أولها فرض تعريفات على سلع الدولة المستهدفة، أو تحديد كميات معينة من السلع المستوردة منها أو المصدرة إليها، أو فرض حظر تجاري كامل في البيع والشراء على دولة معينة، أو مصادرة (أو تجميد) الأصول للدولة وبعض المنتمين إليها.
ومع اتساع تطبيقات العقوبات الاقتصادية في عصرنا الحالي، يثار تساؤل مهم حول مدى فاعلية تلك العقوبات في تحقيق أهدافها.
ولعل كوريا الشمالية هي أكثر دولة عانت من العقوبات الاقتصادية مؤخرًا، فالعقوبات المفروضة عليها تمنعها من الحصول على المعدات العسكرية وذات الاستخدام المزدوج (مدنيًا وعسكريًا)ـ فضلًا عن تجميد أرصدة الأشخاص المشتبه في تورطهم في برنامجها النووي.
كما تفرض العقوبات حظرا على تصدير الفحم والسلع الإلكترونية والطعام والمنتجات الزراعية والأخشاب والأقمشة، وبعض المنتجات الخام من الصخور والمعادن.
تأثير عقوبات كوريا وسوريا
وعلى الرغم من المدى الطويل للعقوبات، والتي يعود بعضها إلى أكثر من 60 عامًا، والبعض الآخر بدأ منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، إلا أن النظام الكوري الشمالي المناهض لواشنطن ما زال قائمًا وما زال يعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل ويطور برنامج صواريخه أيضًا.
غير أن العقوبات تسببت في معاناة الاقتصاد الكوري الشمالي من تراجع مخيف، حتى أن التقديرات تشير إلى فقد الناتج القومي لأكثر من نصف قيمته خلال الثلاثين عامًا الأخيرة، التي سجل فيها الاقتصاد معدل نمو إيجابي فقط في 5 أعوام، بينما سجل معدلات سلبية في بقية الأعوام وصلت إلى -4.5% في بعضها.
ولعل هذا ما دفع بمسؤول كوري شمالي منشق عن النظام للتحذير من أن اقتصاد بلاده لن يستطيع الاستمرار في ظل العقوبات لعام مقبل، وأن من يعاني بسبب تلك العقوبات هم الفقراء وخصوصا فيما يتعلق بالغذاء،وليس النظام الكوري نفسه.
وهناك مثال آخر على العقوبات الاقتصادية التي تستهدف النظام السوري، وتشمل أيضًا المعدات الحربية والمواد والاستخدام المزدوج في المجالين المدني والعسكري، فضلًا عن تجميد أصول مئات المسؤولين.
وفي الحالتين السابقتين فإن الأزمة التي تعترض تحقيق العقوبات الاقتصادية لأهدافها هي وجود طرف دولي فاعل يدعم الدولتين المستهدفتين من العقوبات، سواء الصين أو روسيا على الترتيب، بما يجعل هناك "بابا خلفيا" يسمح بالتحايل عليها وتجنب تحقيقها لأهدافها.
ويرى المفكر الأمريكي "إين بريمر" أن العقوبات الاقتصادية تكون فعالة بقدر اندماج اقتصاد الدولة في نظيره العالمي، ففي حالة كوريا الشمالية وكوبا على سبيل المثال فإن انعزالهما عن الاقتصاد العالمي جعل تأثير العقوبات عليهما بطيئًا، ولا يدفع الأنظمة لتغيير سياستها.
بينما الصراع القائم في سوريا يجعل العقوبات الاقتصادية أداة غير فعالة، وفقًا لبريمر، حيث إن النظام السوري الذي يقاتل من أجل بقائه لن يهتم كثيرًا لفرض عقوبات عليه، لأن لديه مشاكل أكثر إلحاحًا عليه أن يتعامل معها.
حالة ناجحة
وفي حالة الاقتصاد الإيراني فإن النتيجة لم تختلف كثيرًا، فكلما فرضت القوى الغربية عقوبات جديدة على إيران، اتجهت هي في المقابل إلى تقوية علاقاتها التجارية مع الصين وروسيا، حتى أن الصين زادت صادراتها لإيران بنسبة 22% خلال آخر 8 أشهر فقط.
ويرى بريمر أن الحالة الوحيدة التي تم رصدها لعقوبات اقتصادية فعالة كانت على نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا في ثمانينيات القرن الماضي، وذلك لأن الأقلية البيضاء لم تكن ترغب في حكم الدولة قدر رغبتها في الحصول على مكاسب مادية ولذا قررت التخلي عن البلاد عندما أصبح حكمها "صفقة خاسرة".
وتتزايد أهمية إدراك حجم تأثير العقوبات الاقتصادية على الدول، مع اتجاه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإعادة بعض العقوبات على كوبا وإيران، فضلًا عن احتمالات فرض تعريفات (وهي تعتبر نوعًا من العقوبات) على سلع أخرى خلافًا للصلب.
ويؤكد "برايمر" على أن:"العقوبات الاقتصادية تتحول مع الوقت من كارثة للدولة المستهدفة إلى "لعبة عض الأصابع" التي تستطيع أن تتكيف معها إن عاجلا أو آجلا ، لتصبح في غالبية الحالات مجرد ضغط لا يغني ولا يسمن من جوع.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}