نبض أرقام
10:09 م
توقيت مكة المكرمة

2024/11/23
2024/11/22

التجربة المكسيكية.. اقتصاد ينطلق نحو العالمية وشعب محلك سر

2018/03/24 أرقام - خاص

خلال النصف الثاني من القرن العشرين، واجهت المكسيك عدة أزمات اقتصادية، لكن ربما أهمها وأشهرها أزمة 1994، أو ما تعرف باسم أزمة "التكيلا" والتي أحدثت أضراراً كبيرة باقتصاد المكسيك ونظامها المصرفي عقب انهيار العملة المحلية البيزو.

 

 

وبمناسبة مرور ما يقرب من 24 عامًا على اندلاعها، سنحاول في هذا التقرير استعراض كيفية تطور الأزمة والعوامل المسببة لها والخلفية الاقتصادية والسياسية لما حدث.

 

من أجل "النافتا"

 

- في أوائل التسعينيات، عجل الرئيس المكسيكي السابق "كارلوس ساليناس" بخطى الإصلاح الاقتصادي في المكسيك، في سعيه لدمج بلاده في الاقتصاد العالمي، ولكنه خاطر بكل شيء بما في ذلك رأسماله السياسي من أجل الحصول على موافقة الولايات المتحدة وكندا على إدراج المكسيك في اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة (نافتا).

 

- أي دولة ترغب في الانضمام إلى "نافتا" يجب عليها الموافقة على القضاء التام على جميع الحواجز أمام حركة التجارة (مثل التعريفات الجمركية) حلال 15 عامًا من توقيع الاتفاق. والمكسيك من جانبها قبلت بذلك.

 

- في ظل ثبات سعر الصرف عند 3.5 بيزو مقابل كل دولار، تشجع الكثير من المستثمرين الأجانب على الدخول الاقتصاد المكسيكي، وخلال الفترة ما بين عامي 1991 و1993 دخل البلاد ما مجموعه 91 مليار دولار، غير أن ثلثي ذلك المبلغ كان عبارة عن أموال ساخنة، لم تدخل إلا للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع نسبيًا.

 


- في الفترة ما بين شهري مارس/آذار ونوفمبر/تشرين الثاني من عام 1994، تعرض البيزو المكسيكي المربوط في ذلك الوقت بالدولار الأمريكي لضغوط شديدة، لعدة أسباب من بينها قيام الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 250 نقطة أساس خلال تلك الفترة الزمنية، وهو ما تسبب في هروب الاستثمارات قصيرة الأجل ناحية الولايات المتحدة.

 

- في ذلك الوقت أيضًا، عانت المكسيك سلسلة من الاضطرابات السياسية التي أضعفت ثقة المستثمرين، بعد وقوع عدة حوداث اغتيال سياسي خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية التي تم عقدها في وقت لاحق من ذلك العام.

 

- على أثر ذلك، استمر احتياطي البلاد من النقد الأجنبي في الانخفاض بسرعة، وفي محاولة لوقف النزيف قامت الحكومة في أبريل/نيسان 1994 بإصدار سندات دولارية قصيرة الأجل بقيمة 29 مليار دولار سمتها "تيسوبونوس"، غير أن تلك التدابير فشلت في إعادة الثقة للمستثمرين الأجانب.

 

التعويم .. طرق أبوب أمريكا مجددًا

 

- عقب انتخاب "إرنستو زيديلو" رئيسًا للمكسيك، قررت حكومته تخفيض قيمة البيزو في 20 ديسمبر/كانون الأول 1994. وزعمت "سبريا سينج" في كتابها "عولمة المال" أن "زيديلو" ألمح لبعض رجال الأعمال الأثرياء في الثامن عشر من ذات الشهر بأنه سيخفض قيمة البيزو قريبًا، وهو ما سمح لهم بتحويل مليارات من البيزو إلى دولارات.

 

- بعد يومين أعلنت الحكومة المكسيكية تخفيض قيمة البيزو من خلال رفع النطاق العلوي لسعر الصرف بنسبة 15%، وتسببت هذه الخطوة في إصابة المستثمرين بالهلع. خلال اليومين التاليين للإعلان غادر البلاد 4.8 مليار دولار، أي نصف احتياطي المكسيك من النقد الأجنبي.

 

- في اليوم الثالث بعد الإعلان، أي في 22 ديسمبر/كانون الأول، أعلنت المكسيك فك ارتباط البيزو بالدولار، وتعويمه. وبحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول، فقد البيزو أكثر من 35% من قيمته. وفشلت السلطات المكسيكية في وقف انهياره لتهبط قيمته من 3.5 بيزو مقابل كل دولار إلى 7.5 بيزو في مارس/آذار 1995.

 

- كما فعلت أثناء أزمة الديون عام 1982، توجهت المكسيك مرة ثانية إلى الولايات المتحدة طالبة المساعدة. وفي نهاية يناير/كانون الثاني 1995، وبينما كانت المكسيك على وشك التخلف عن سداد ديونها، أمنت الولايات المتحدة لها اعتماداً مالياً عالمياً بقيمة 50 مليار دولار.

 


- وعدت الولايات المتحدة المكسيك بتقديم 20 مليار دولار منفردة من هذا الاعتماد، على أن يساهم صندوق النقد الدولي (18 مليار دولار) وبنك التسويات الدولية (10 مليارات دولار) وعدد من البنوك التجارية الخاصة (3 مليارات دولار) بالقسم الباقي.

 

- انتقد المحافظون برنامج الإنقاذ الذي بادرت إليه الولايات المتحدة، وقال "لورنس كودلو" المحرر الاقتصادي بمجلة "ناشيونال ري يو" في شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي:

 

- "هذه ليست عملية إنقاذ للبيزو أو الاقتصاد المكسيكي، بل هي عملية إنقاذ للبنوك وشركات السمسرة وصناديق التقاعد وشركات التأمين الأمريكية التي تمتلك ديونًا مكسيكية قصيرة الأجل، تشمل 16 مليار دولار من سندات "تيسوبونوس" الدولارية، و2.5 مليار دولار من سندات الخزينة المصدرة بالبيزو."

 

- هذا بالتأكيد لم يكن بلا مقابل، فهناك دائمًا ثمن. مقابل ذلك الاعتماد المالي السخي، قدمت المكسيك صادراتها المستقبلية من النفط كضمان للأموال المقترضة التي يجب تسديدها خلال ثلاث إلى خمس سنوات. واستخدم ما يقرب من 12 مليار دولار من القرض الأمريكي خلال عام 1995 لتسديد قيمة المستحق من سندات "تيسوبونوس".

 

- بعد أن تعرضت لانتقادات داخلية تتركز حول إهدار أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، زعمت إدارة "بيل كلينتون" أن برنامج الإنقاذ كان ضروريًا أيضًا لحماية المصالح الأمريكية، حيث ادعى وزير الخزانة الأمريكية "روبرت روبن" أنه كان هناك 7 ملايين وظيفة في الولايات المتحدة مرتبطة مباشرة بالأسواق المكسيكية.

 

على حساب من؟

 

- تظهر تجربة الإنقاذ الأمريكية للمكسيك بوضوح أنه لم تكن هناك مشاركة بتكاليف الأزمة من قبل قوى السوق. فلم يتحمل وطأة إجراءات التقشف سوى المواطنين الفقراء، وبشكل عام لم تخدم عملية الإنقاذ سوى مصالح النخبة الضيقة في المكسيك والولايات المتحدة.

 

- أدت الأزمة إلى تدهور الاقتصاد المكسيكي، وزادت من صعوبة ظروف الناس المعيشية وخاصة الفقراء منهم. ففي مارس/آذار من عام 1995 أعلن رئيس البلاد عن خطة تقشف صارمة، تضمنت إجراءات مثل رفع معدل الضرائب وخفض حجم الإنفاق العام على عدد من القطاعات وخاصة على قطاع الخدمات الاجتماعية.

 

- إضافة إلى ذلك، تم رفع معدل الفائدة إلى نطاقات عالية بغرض جذب المستثمرين الأجانب ودعم البيزو، واستمرت نسبة الفائدة في الارتفاع إلى أن اقتربت من 80%، وهكذا ضحت الحكومة بالاستثمارات المحلية من قبل الشركات المكسيكية من أجل الحصول على العملة الصعبة من الأجانب.

 

- الكارثة، هي أن ثقة المكسيكيين أنفسهم بعملتهم تدهورت كثيرًا نتيجة لهذه الإجراءات لدرجة أن عدداً من الشركات المحلية رفضت في بعض الأحيان التعامل بالبيزو وأصرت على التعامل بالدولار.

 

- خلال أول شهرين من عام 1995، خسر أكثر من 750 ألف عامل مكسيكي وظائفهم، قبل أن يتم تسريح أعداد كبيرة من العمالة المؤقتة خلال الأشهر اللاحقة. وهبطت الأجور الحقيقية للعمال المكسيكيين بنسبة 30% مقارنة مع ما كانت عليه في عام 1990. وبحلول عام 1996، كان هناك أكثر من 3 ملايين عاطل عن العمل.

 

- وفقاً لتقديرات محلية، خسر متوسط الأجور 54% من قوته الشرائية خلال الفترة ما بين ديسمبر/كانون الأول 1994 ويوليو/تموز 1995. كما أن الحد الأدنى للأجور الذي كان يشتري 67% من السلع الأساسية لعائلة مؤلفة من 5 أفراد أصبح يشتري 53% فقط.

 


- لكن على الجانب الآخر، وبفضل تراجع قيمة البيزو، زادت الصادرات المكسيكية بنسبة 33% خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 1995 مقارنة مع الفترة نفسها من عام 1994، وتحول العجز التجاري إلى فائض بنهاية عام 1995.

 

- السؤال الذي يطرح نفسه الآن، بعد كل هذه المعاناة، هل استفاد المكسيكيون من "نافتا"، هل كان الأمر يستحق؟ إذا نظرنا إلى أداء أهم مقاييس التقدم الاقتصادي بالنسبة لبلد نام مثل المكسيك وهو معدل نمو دخل الفرد خلال السنوات العشرين الممتدة بين عامي 1994 و2014، فنجد أن المكسيك تحتل المرتبة الـ18 من بين دول أمريكا اللاتينية العشرين.

 

- بالرجوع إلى الفترة ما بين عامي 1960 و1980، نجد أن نصيب الفرد المكسيكي من الناتج المحلي الإجمالي تضاعف تقريبًا، كما شهدت تلك الفترة تحسنات كبيرة في مستويات معيشة الغالبية العظمى من المكسيكيين.

 

- لكن شأنها شأن دول مشت قبلها في هذا الطريق، اعتمدت المكسيك في السنوات اللاحقة سياسات ليبرالية غيرت هيكل الاقتصاد، وركزت بشكل رئيسي على إدارة الديون وأهملت السياسات الصناعية والإنمائية، واجتهدت في إزالة الحواجز التجارية التي كانت تحمي آخر ما تبقى من الصناعة المكسيكية.

 

- بانضمامها إلى "نافتا" وموافقتها على شروطها، ربطت المكسيك مصيرها بمصير الاقتصاد الأمريكي. رفع الفيدرالي لأسعار الفائدة في 1994 وانهيار سوق الأسهم الأمريكي خلال عامي 2000 و2002 وركود 2001 وانهيار فقاعة الإسكان في 2008، كل هذه الأحداث تأثرت بها المكسيك أكثر من أي بلد آخر بالمنطقة.

 

- رغم انخفاض معدل الفقر في معظم دول أمريكا اللاتينية من 43.9% في عام 2002 إلى 27.9% خلال 2013، لم تحقق المكسيك أي إنجاز يذكر في هذه الناحية، حيث بلغ معدل الفقر لديها في عام 2014 حوالي 53.2%، وذلك مقارنة مع 52.4% في عام 1994. 24 عامًا مرت ولا يزال الفقراء في انتظار الازدهار الموعود.

 

- في الحقيقة، الإحصاءات كان من الممكن أن تبدو بشكل أسوأ مما هي عليه الآن، إذا لم يهاجر الملايين من المكسيكيين العاملين بالقطاع الزراعي من البلاد، بعد أن تركتهم الحكومة المكسيكية دون حماية في مواجهة منافسيهم بالقطاع الزراعي الأمريكي المتطور والمدعوم من قبل الحكومة، وذلك بفضل قواعد "نافتا".

 

- أخيرًا، تفخر المكسيك باقتصادها الذي يأتي في المرتبة الـ15 في ترتيب أكبر اقتصادات العالم مع ناتج محلي اسمي يبلغ حوالي 1.142 تريليون دولار (2017)، ولكن ما فائدة ذلك لشعب يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر؟

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.