طاروا فرحًا ولم تسعهم الأرض حين صدّرت بلادهم النفط إلى الخارج لأول مرة في أكتوبر/تشرين الأول 2003. حينها خرج الأطفال والنساء إلى الشوارع بثياب جديدة، وظلوا يصيحون قائلين: "تشاد بلدنا، أصبحت دولة نفطية".
بلدان، مثل السعودية والكويت كانت هي النموذج الذي خطر في أذهانهم أثناء تصورهم لمستقبلهم الذي أملوا أن تجلب إليه أموال النفط، الاستقرار والازدهار، بعد عقود عاشوها يعانون الفقر والنزاعات.
لكنهم لم ينعموا أبدًا بهذه الثروة، وأموال النفط ضاعت بين جهتين. الأولى هي شركات النفط الأجنبية بزعامة "إكسون موبيل" التي تسيطر على القطاع بالكامل بسبب افتقار تشاد إلى الخبرة، والثانية هي حكومة البلاد التي تستخدم الفتات الذي تحصل عليه من الشركات الأجنبية في التمويل العسكري. وبين هذه وتلك، ضاع التشاديون.
تجربة فاشلة
- في عام 1996، اكتشفت "إكسون موبيل" ما بين 800 مليون إلى مليار برميل من النفط في حوض دوبا جنوب تشاد. لكن بسبب أن الخام التشادي من النوع الثقيل الذي يباع بأسعار منخفضة في السوق الدولية، وافتقار البلاد إلى ساحل على البحر، قتلت تكاليف النقل فكرة الاستفادة من هذه الاحتياطيات.
- لكن "إكسون موبيل" لم تستسلم وبدأت تبحث عن أي طريقة للاستفادة من هذا النفط. وفي عام 1999، نجحت في إقناع البنك الدولي بالقيام بتجربة على تشاد. وبالفعل، توصل البنك الدولي وتحالف من الشركات النفطية تقوده "إكسون موبيل" إلى اتفاق مع الحكومة التشادية في يونيو/تموز 2000 يقضي ببناء خط أنابيب طوله 650 ميلًا لنقل الخام التشادي إلى الساحل الكاميروني باستثمارات تقدر بنحو 3.7 مليار دولار.
- بموجب الاتفاق، يتولى التحالف إدارة القطاع النفطي بالبلاد، وتمتلك "إكسون" 40% من المشروع، بينما تمتلك "بتروناس" الماليزية 35%، في حين تتقاسم كل من "شيفرون" و"تكساكو" الـ25% المتبقية.
- نصيب تشاد من عائدات المشروع الذي كان من المتوقع أن يصل إنتاجه إلى نحو 225 ألف برميل/يوميًا كان 12.5% فقط، ولم يكن بوسع الحكومة التشادية التصرف فيها، فقد اشترط البنك الدولي أن يتم تحويل هذه الأموال مباشرة إلى سيتي بنك في لندن، قبل أن يحدد أوجه إنفاقها.
- تم وضع برنامج التزمت فيه الحكومة التشادية بإنفاق 72% من عائدات البلاد النفطية على بناء المدارس والمستشفيات والطرق، بالإضافة إلى الاحتفاظ بنسبة 10% منها للأجيال القادمة. واعتبرت هذه الضمانات حاسمة بالنظر إلى أن احتياطيات البلاد من الخام كان من المتوقع أن تنضب خلال 30 عاما.
- المشروع بدأ بالكاد حين قام رئيس البلاد "إدريس ديبي" بإنفاق 4.5 مليون دولار من أموال النفط على السلاح، قبل أن يجبره البنك الدولي على إعادة الأموال. لكن في عام 2005 وافق البنك الدولي على تغيير الاتفاق للسماح لـ"ديبي" بشراء الأسلحة بأموال كانت مخصصة للتنمية.
- في سبتمبر/أيلول عام 2008، ألغى البنك الدولي الاتفاق مع تشاد، وقال في بيانه "إن حكومة ديبي فشلت في تخصيص موارد كافية لبرنامج مكافحة الفقر. واتضح لنا أن الإجراءات والضمانات التي تم اتخاذها لم تكن فعالة".
ظلام دامس
- 98 % من سكان ماوندو – ثاني أكبر مدن تشاد – لا تصلهم الكهرباء. والمثير للسخرية هو أن شبكة الكهرباء التي يمتلكها بلدهم الغني بالنفط لا تتعدى قدرتها الإجمالية 20 ميجا واط. هذه هي الكهرباء التي لا تتطلب أكثر من النفط الذي تمتلكه تشاد.
- ماوندو ليست استثناء، معظم تشاد تقريبًا تكون ظلامًا دامسًا في الليل. لا إضاءة في المنازل ولا الشوراع، ومن له حاجة يريد أن يقضيها في الليل يستعين بمصابيح الغاز والشموع، أو ينير طريقه من خلال المصابيح الأمامية للدراجات النارية.
- في الوقت نفسه، في منطقة غير بعيدة تدعى "كومي" تظهر من بعيد منشأة عرضها 25 ميلًا مضاءة كأنها النهار، بفضل محطتها الكهربائية التي تتمتع بقدرة إجمالية تقدر بنحو 120 ميجا واط: مجمع إكسون موبيل.
- هذا المجمع لا ينتج فقط 6 أضعاف ما تنتجه جمهورية تشاد بأكملها بل إنه من المرجح ينتج أكثر مما ينتجه الساحل الأفريقي بالكامل. إذا حاولت النظر إلى المدينة من الفضاء ستجدها عبارة عن بقعة مضاءة وسط ظلام دامس.
- ركزت "إكسون" كل عملياتها في تشاد داخل هذا المجمع، وضربت حوله السياج، وأصبح النشاط الاقتصادي محصورًا داخل تلك القطعة من الأرض، لا مصانع ولا محال تجارية بالخارج، لأن الأجانب الذين قدموا إلى البلاد لا يفضلون الاختلاط بالتشاديين، لدرجة أن الفنادق الثلاثة التي تمتلكها المدينة لم تعد تهتم بإصلاح مولدات الكهرباء لديها.
- الشيء الوحيد الذي أصبحت تعرف به مدينة ماوندو هي أنها موطن مصنع الجعة الوطني في تشاد. يصنعون الجعة ويبيعونها إلى ساكني المجمع المحصن. وفقًا لبيانات البنك الدولي، لا يوجد في ماوندو التي يقترب عدد سكانها من المائة ألف سوى طبيبين اثنين فقط.
اضطراب واختلال اجتماعي
- يقول "نادجي نيلامباي" منسق الائتلاف المحلي للمنظمات غير الحكومية في تشاد في حديثه للصحفي بمجلة "سلايت" الأمريكية "جون جزفينيان" إن "إكسون" تسببت في إغلاق عشرات المدارس الابتدائية التي غادرها المعلمون بحثًا عن وظائف أكثر ربحًا – حتى لو كانت مؤقتة – لدى الشركة الأمريكية.
- الأسوأ من ذلك هو أن العديد من الفتيات تخلت عن فكرة الدراسة كليًا وذهبت للعمل داخل مجمع إكسون كمومسات، وهو ما ساهم في ارتفاع معدل الإصابة بالإيدز. في الوقت نفسه، ترك الكثير من الشباب الحقول الزراعية وذهبوا للبحث عن عمل لدى إكسون، مما أدى إلى انخفاض الإنتاجية الزراعية.
- خلال مرحلة بناء المجمع، قام المقاولون الذين يعملون لصالح "إكسون موبيل" بتدريب السكان المحليين للعمل كقوات شبه عسكرية. ولكن بعد أن انتهى البناء عاد معظمهم إلى قراهم، ولم يعد باستطاعتهم تغطية نفقاتهم بعد أن فقدوا الأجور السخية التي كانوا يحصلون عليها، لذلك عمدوا إلى استخدام مهاراتهم الجديدة في أنشطة الإجرام واللصوصية.
- ارتفعت معدلات الطلاق أيضًا وذلك بفضل قيام المزاعين المشردين بإنفاق ما جمعوه أثناء عملهم على الفتيات اللواتي قدمن من نيجيريا المجاورة والكاميرون وأفريقيا الوسطى وغانا بحثًا عن عمل لدى إكسون موبيل.
- ظلت "إكسون موبيل" لسنوات تمنع الصحفيين من الاقتراب من المجمع، تجنبًا للانتقادات التي قد توجه إليها بسبب فشل حقول منطقة دوبا التي تسيطر عليها في تحقيق تنمية ذات مغزى للشعب التشادي.
- الشكل الذي يظهر به الوضع عند المجمع محرج للشركة. فعلى أحد الجوانب تجد مجمعا داخله منشآت مكيفة الهواء، ومطار خاص وتوربينات كهربائية وحمامات سباحة وملاعب لكرة السلة ويحيط بكل ذلك سياج مرتفع وحراس مدججين بالسلاح.
- على الجانب الآخر يعيش ما يقرب من 10 آلاف شخص في ما يشبه المعسكر المؤقت دون مياه نظيفة. وتوجد النوداي الليلية يعمل بها فتيات يتحدثن الإنجليزية من نيجيريا وغانا، يرتادها الفرنسيون والأمريكيون العاملون لدى "إكسون موبيل".
- "هذه أرضنا. نحن لم نر أي فائدة منهم منذ أن قدموا. في البداية قالوا لنا سنبني لكم المستشفيات والمستوصفات والمدارس، ولكنهم لم يفعلوا ذلك أبدًا" هكذا يقول شاب يدعى "جوديه" لـ"جزفينيان".
- بعد أن اشتكوا، عرضت "إكسون" على القرويين 5 خيارات: بناء مدرسة أو صومعة أو بئر أو واحد كيلومتر من الطرق المعبدة أو سوق. اختار القرويون المدرسة، وتوقعوا أن تضم 6 مراحل، ولكن "إكسون" بنت مدرسة عبارة عن غرفتين!
- هل حقا تريد الشركة الأمريكية أو مثيلاتها لهؤلاء أن يتعلموا؟ ..وفي الوقت الذي لا حصل فيه التشاديون على سمك ولا تعلموا الصيد، تظل "إكسون" سيدة الموقف، ويظل أمل الفقراء الأكبر كسرة خبز تسد الرمق ولا شيء آخر قد يغير المستقبل.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}