في السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول عام 1992، عقد مركز علوم المصلحة العامة (CSPI) في الولايات المتحدة مؤتمرًا صحفيًا، أعلن خلاله أن عبوة متوسطة الحجم من الفشار المقلي بالزبدة أو زيت جوز الهند الذي يتناوله رواد السينما تحتوي على دهون تساهم في انسداد الشرايين أكثر من تلك الموجودة في وجبة إفطار مكونة من لحم مقدد وبيض، وغداء يشمل بيج ماك وبطاطا مقلية، وعشاء عبارة عن قطعة ستيك، مجتمعين!
طغى الذهول على وجه الحاضرين الذين جاهدوا لاستيعاب حقيقة أن كل هذه الدهون المشبعة والتي تعادل القيمة الغذائية ليوم كامل من الأكل غير الصحي محشوة في كيس واحد من الفشار.
فورًا، تصدرت القصة عناوين صحف "يو إس إيه توداي" و"لوس أنجلوس تايمز" و"واشنطن بوست"، وتناولتها أيضًا نشرات الأخبار في قنوات مثل "سي بي إس" و"إن بي سي" و"إيه بي سي" و"سي إن إن".
أما جمهور السنيما الذي صدمته هذه الدراسة، فتجنب معظمهم الفشار، لتنخفض مبيعاته، وبدأ موظفو الخدمة في دور السنيما يتلقون أسئلة حول ما إذا كان الفشار المقدم مقليا في الزيت غير الصحي. وبعد فترة وجيزة أعلنت كبرى سلاسل دور السنيما والمسارح في البلاد توقفها عن استخدام زيت جوز الهند.
المثير حول هذه القصة، هو أن نتائج الدراسة التي عرضها مركز (CSPI) لم تكن جديدة تمامًا، فقبل المؤتمر الصحفي بفترة، اكتشف باحث يدعى "سيلفرمان" أن الفشار المقلي بزيت جوز الهند سيئ جدًا بالنسبة للصحة، ويحتوي على الكثير من الدهون. ولكن لم يستمع إليه أحد.
إذن، ما الذي حدث وجعل الفكرة تعلق فجأة في أذهان الجميع كالشريط اللاصق القوي بمجرد أن طرحها مركز علوم الصحة العامة الأمريكي؟ هل هناك تكنيك معين يجعل بعض الأفكار أكثر فاعلية من غيرها؟
من سرق كليتي؟
- في كتابهما "صنعت لتبقى" (Made to Stick) يفسر لنا الأخوان "شيب" و"دان هيث" ما هي الأشياء التي تجعلنا نلاحظ بعض الأفكار ونفهمها ونهتم بها ونتذكرها دائمًا، بينما لا يحدث ذلك مع أخرى قد تكون أكثر نبوغًا.
- رجل غريب يدخل إلى مقهى في مدينة لا يعرفها ويطلب مشروبًا، قبل أن تقترب منه سيدة جذابة وتسأله عما إذا كان يرغب في مشروب آخر. هذا المشهد هو آخر شيء يستطيع ذلك الرجل تذكره بعد أن استيقظ في صباح اليوم التالي ليجد نفسه موضوعا في حوض استحمام مليء بالثلج، وهناك جرح في ظهره وأنبوب يخرج منه، ويقترب منه المسعف قائلًا "سيدي لا داعي للذعر، ولكنك فقدت أحد كليتيك". سرقت المرأة كليته!.
- لماذا كل من سمع هذه القصة التي لا تدعمها أي أدلة حقيقية يتذكرها كاسمه، ولا يتذكر مثلًا دروس الأحياء أو الاقتصاد التي درسها خلال فترة الثانوية أو الجامعة؟
- الجواب بسيط جدًا، وهو أن هناك 6 صفات تتسم بها الأفكار التي تعيش كثيرًا وتعلق في أذهاننا، وهي: البساطة والفجائية والواقعية والمعقولية والعاطفية وأخيرًا الطابع القصصي. وسنستعرض بعضها الآن.
- البساطة: البساطة تعني إيجاد جوهر الفكرة. الناس لن يتذكروا 90% مما تخبرهم به، لذا كن واضحًا حول ما هو الشيء الرئيسي الذي ترغب في أن يتذكره الناس وركز عليه. ولكن اعلم أن التبسيط فن، بمعنى: حاول أن تبسط الفكرة بقدر الإمكان ولكن دون أن تفقد عمقها.
- الطيار الفرنسي الشهير "أنطوان دي سانت إكسوبيري" قام بتعريف الهندسة كالتالي "المصمم يعرف أنه حقق الكمال، ليس عندما لا يوجد أي شيء يمكن إضافته، وإنما حين لا يمكنه انتزاع مسمار واحد من جسد الطائرة". باختصار أصغر قطعة لها وظيفة، ولا يمكن الاستغناء عنها.
- البساطة تعني أن نقطة أفضل من خمس نقاط، والكلمات البسيطة القصيرة أفضل من المعقدة الطويلة. وكلما نجحنا في التعبير عن أفكارنا بكلمات قليلة زادت فرص انتشارها وصمودها عبر الزمن. وهذا هو السبب في أن مقولة مثل "طائر في اليد خير من 10 على الشجرة" صامدة منذ حوالي 2500 عام، ومتداولة بمعظم اللغات. هذا حدث، لأنه تم التعبير عن جوهر الفكرة بأبسط طريقة ممكنة.
- الكثيرون لا يدركون ذلك ويتجاهلون فن البساطة في محاولة لإظهار كم أنهم أذكياء. مع الأسف هؤلاء نسوا أن المبدأ الأساسي للتواصل هو البساطة.
خالف توقعاتهم
- الفجائية: مفتاحك لإسماع الناس صوتك هو لفت انتباههم. وأقوى طريقة للحصول على انتباه أي شخص هي مفاجأته من خلال كسر النمط السائد. فأدمغتنا كبشر دائمًا ما تركز فقط على ما هو مختلف.
- إعلان تلفزيوني يقدم مشهدا لعائلة سعيدة تركب سيارتها وتتجول بها في الشوارع والضواحي، ثم فجأة ومن اللامكان يحدث ما يشبه الانفجار! حادث تحطم مروع. الفكرة كانت "أهمية ربط حزام الأمان". والسبب في أن هذا الإعلان لاقى رواجًا كبيرًا وكان فعالًا جدًا هو أن فكرته كسرت الصورة الذهنية لدى الكثيرين حول القيادة في الضواحي.
- واحدة من أهم المشاكل التي نعاني منها، هو أن الناس غالبًا ما يعتقدون أنهم يعرفون أكثر مما يعرفونه بالفعل. أفضل طريقة للتغلب على هذه المشكلة هو وضع الناس في موقف يشعرون فيه بالإخفاق. هذا يحدث اختلالًا يزعزع رؤيتهم للواقع، وفي هذه اللحظة يمكنك طرح فكرتك أيًا كانت عليهم.
- كيف يمكنك أن تصحح فكرة مغلوطة لدى الناس ولكنها تلقى رواجًا كبيرًا بينهم؟ لنأخذ على سبيل المثال الاعتقاد السائد بأن أسماك القرش تتسبب في مقتل الكثير من البشر؟ لتصحيح معتقدات الجمهور حول هذا الأمر، لا تندفع وتخبرهم بالأرقام الفعلية مباشرة، ولكن اسألهم عما إذا كانوا أكثر عرضة للقتل من قبل أسماك القرش أو من قبل الغزلان.
- ما لم يكن يدركه البعض هو أن الغزلان أكثر خطورة من أسماك القرش، وبمجرد أن تخبرهم المعلومة بهذه الطريقة وفي هذا السياق، سيتذكرها أغلبهم دائمًا.
- المعقولية: في عام 1980 توصل باحثان من مدينة برث الأسترالية إلى اكتشاف مدهش: قرحة المعدة تسببها البكتيريا. ولكن لم يصدقهم أحد، فالبنسبة للجميع كانوا يفتقرون للمصداقية لأنهما لم يأتيا من مؤسسة بحثية طبية معروفة، ولم تكن حتى أوراق اعتمادهما الشخصية قوية (كان أحدهما لا يزال طالبًا). استغرق الأمر 10 سنوات قبل قبول الأوساط العلمية لهذا الرأي، ويفوز الصديقان بجائزة نوبل.
- من الصعب تغيير المعتقدات السائدة، وفي كثير من الأحيان يرفض الناس الحجج المنطقية. ولكن هناك أشخاصا يملكون ما يكفي من التأثير للمساهمة في تغيير اعتقاد ما. فإذا كنا نؤمن ونثق في شخص ما (سواء كان قريبا أو صديقا أو خبيرا أو أحد المشاهير)، فإننا أكثر عرضة للتأثر به.
- أيضًا، لا يمكننا تجاوز حقيقة أن أغلبنا مغرم بالتفاصيل. فدائمًا ما نفترض أنه إذا كان باستطاعة أي شخص مناقشة أي شيء بالتفصيل، فإنه بالتأكيد على حق.
- ضمن تجربة، اختيرت مجموعة من الأشخاص لتشكيل هيئة محلفين وهمية من أجل الحكم في جريمة. وتم إعطاؤهم وصفا تفصيليا لأحداث وأدلة لا علاقة لها بالجريمة مثل نوع فرشاة الأسنان التي استخدمها الطفل قبل أن يذهب إلى سريره. ورغم أن هذه التفاصيل لم تكن ذات صلة، إلا أنها أثرت على أنماط التصويت.
- أحيانًا يكون التركيز على التجربة الشخصية هو أفضل وسيلة لزرع الأفكار وتغيير المعتقدات. وهذا هو التكنيك الذي اتبعه المرشح الانتخابي "رونالد ريجان" في مناظرته مع الرئيس الأمريكي الحالي وقتها "جيمي كارتر" في عام 1980، حين وجه سؤاله الشهير للأمريكيين "هل أنتم أفضل حالًا مما كنتم عليه قبل 4 سنوات؟" سأل الناخبين أن يسألوا أنفسهم.
يجب أن تقرأه
- منذ إصداره في ديسمبر/كانون الأول عام 2006، جنى هذا الكتاب شعبية كبيرة بين المديرين التنفيذيين وخبراء التسويق والمعلمين والوزراء ورجال الأعمال وكل من لديه فكرة يريد أن يبيعها للعامة. وقد ترجم إلى اللغات العربية والبلغارية والكرواتية والهولندية و25 لغة أخرى.
- "صنعت لتبقى" احتل صدارة قائمتي "وول ستريت جورنال" و"نيويورك تايمز" للكتب الأكثر مبيعًا، وتم اختياره باعتباره واحدًا من أفضل 100 كتاب حول الأعمال في التاريخ.
- لكنه في نفس الوقت كتاب مخيف! لسببين، الأول هو أنه يعطيك نظرة ثاقبة حول قوة الأفكار السيئة التي تتسم بالبساطة والعاطفية والتي تحظى بقدر هائل من الانتشار رغم كونها خاطئة. أما الثاني، فهو أنه يجعلك ترى عالم الأفكار كنوع من سباق التسليح. الجميع يحاول إغواءك كمواطن لك صوت انتخابي وكمستهلك تمتلك مالًا تنفقه.
- لكن، من يملك معظم الأفكار الذكية التي تدوم لفترات طويلة؟ بالتأكيد الشركات الكبيرة، والتي يمكنها تحمل تكلفة توظيف أناس يستطيعون أن يبيعوا المشط للأصلع.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}