هل تتذكرون كم مرة استطاعت فيها شركات صغيرة بمنتجاتها المصنفة كدرجة ثانية تحدي هيمنة شركات كبرى راسخة في مجالاتها منذ عقود، لتأخذ بناصية السوق منها في نهاية المطاف؟
هذا ما يسمى بـ"الابتكار المُزعزِع" أو "الابتكار المسبب للاضطراب"، وهو المفهوم الذي صاغه الأستاذ بجامعة هارفارد "كلايتون كريستنسن" والذي يستخدم في شرح مثل هذه التحولات العنيفة في السوق، ويصف الابتكارات التي تعمل على تحسين منتج أو خدمة بطريقة لا يتوقعها السوق، من خلال تصميم مجموعة مختلفة من المستهلكين في سوق جديدة، أو خفض الأسعار في السوق الحالية.
"كانون" على سبيل المثال، عندما بدأت في تصنيع آلات تصوير رخيصة في منتصف السبعينيات، لم تكن تمثل أي قلق يذكر بالنسبة لمنافستها المسيطرة على السوق في ذلك الوقت "زيروكس".
كانت "زيروكس" تسيطر بشكل كامل تقريبًا على صناعة آلات النسخ، التي تعتبر المخترع الرئيسي لها، كما أن الشركات الصغيرة التي حاولت صنع آلات نسخ بنفس التكنولوجيا لم تشكل أي منافسة تذكر لـ"زيروكس".
"كانون" في المقابل، انتبهت لوجود سوق كبيرة جاهزة، وهم أولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة الآلات التي تصنعها "زيروكس". عكف مهندسو "كانون" على تطوير آلات نسخ رخيصة بجودة معقولة (استمرت في التحسن)، لتدخل الشركة في منافسة مباشرة مع "زيروكس".
في غضون 10 سنوات، انخفضت حصة "زيروكس" في السوق إلى أقل من 40%، وبعد 10 سنوات أخرى، أصبحت "كانون" العلامة التجارية رقم واحد في العالم بسوق آلات النسخ.
لو نظروا تحت أقدامهم ..
- حالة "زيروكس" كانت واحدة من بين الحالات التي لفتت انتباه "كريستنسن"، ودفعته للتساؤل في كتابه "معضلة المبتكر" الصادر في عام 1997: كيف يمكن للشركات الكبيرة التي يبدو للجميع أنها تفعل كل شيء بطريقة صحيحة، أن تظهر بهذا الشكل الضعيف في مواجهة الابتكارات الجديدة؟
- مشكلة الشركات الكبرى هي أنها تنظر في البداية إلى "الابتكارات المزعزعة" على أنها غير مرغوب فيها بالنسبة لعملائهم – هذا إذا كانوا يرونها أساسًا – وهو ما يسمح للشركات الصغيرة المتبنية لهذه التكنولوجيا بتحسين أدائها وهي في مأمن من بطش القدرة التنافسية للكبار، قبل أن تصل إلى مرحلة تمكنها من إسقاط شركات عملاقة.
- هذا ما حدث حينما ظهرت الكتب الإلكترونية لأول مرة، حيث اعتقدت كبرى متاجر الكتب في العالم وقتها، أنها لا تمثل أي تهديد يذكر لصناعة الكتب الورقية. ثم جاءت "أمازون" مع جهازها "كيندل" و"آبل" مع جهاز "آيباد" ولعبا باحترافية على السعر والكفاءة، لتجد ثاني أكبر سلسلة متاجر كتب في أمريكا نفسها مضطرة لإعلان إفلاسها، بعد أن صرح رئيسها قائلًا: "إن صناعة الكتب وثورة القراء الإلكترونيين والاضطرابات الاقتصادية، دفعتنا إلى الوضع الذى نحن فيه الآن".
- في الحقيقة يجد قادة الشركات الكبرى أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه وأمام معضلة حقيقية جدًا: فإما أن يستثمروا ليحافظوا على نموذج أعمالهم الحالي، الذي أثبت ربحيته على مدار عقود، أو أن يقتحموا مجالات جديدة معرضين بذلك أعمالهم الأساسية للخطر، جراء فقدانهم لتركيزهم أو تجرؤ الشركات الناشئة على محاولة مقاسمتهم حصصهم السوقية.
- السبب الرئيس في خسارة شركات كبرى راسخة لصالح شركات ناشئة، هو أن الأخيرة تتعمد مهاجمة الأولى انطلاقًا من الشريحة الدنيا في السوق، والتي نادرًا ما تنتبه إليها الشركات الكبرى. وبالتدريج تعمل الشركات الناشئة على تحسين نفسها تكنولوجيًا، لتتوسع وتبدأ في التوغل في القاعدة الأساسية لعملاء الشركات الكبرى.
شركات كبرى لا ترغب في أن تلقى مصير "زيروكس"
- الكثير من الشركات الكبرى بدأت تنتبه لهذه الحقيقة، وعدلت استراتيجيتها، بحيث أصبحت "الابتكارات المزعزعة" بالنسبة لها فرصة أكثر من كونها تهديدا.
- أظهرت أبحاث شركة "إنوسايت" أن الابتكارات المزعزعة خلال فترتي الثمانينيات والتسعينيات مصدر 75% منها الشركات الناشئة، بينما كان الباقي من نصيب الشركات الكبرى. لكن خلال العقد الأول من القرن الحالي، نمت حصة الشركات الكبرى الراسخة لتصل إلى 35%.
- بعبارة أخرى، يبدو أن المعركة تتأرجح لصالح إمبراطوريات الأعمال، وهذا ما تؤكده الأمثلة التالية:
- "جنرال إلكتريك" لم تنتظر حتى يأتي منافسوها ليشاركوها حصتها السوقية الأساسية، وقامت بمهاجمتهم في أسواقهم المحتملة من خلال تطوير جهاز تخطيط القلب الكهربائي منخفض التكلفة، لبيعه للأطباء في المناطق الريفية بالهند والصين، والذين لم يستطيعوا تحمل تكاليف الأجهزة الأكثر تعقيدًا.
- في حين أن شركات ناشئة مثل "تسلا موتورز" قامت بتصنيع وإنتاج سيارات كهربائية غالية الثمن، قامت اثنتان من شركات صناعة السيارات الكبرى، وهما "جنرال موتورز" و"نيسان" بتطوير نماذج أكثر معقولية من ناحية السعر.
- قدمت "مايكروسوفت" جهاز "كنيكت" وهو نظام ألعاب يسمح للمستخدمين بالتحكم والتعامل مع الإكس بوكس 360 بدون الحاجة للمس جهاز تحكم، وذلك بغرض استهداف فئة من المستهلكين ترى أن "عصا التحكم" بالألعاب معقدة للغاية.
- يبدو أن هناك شيئًا هامًا يحدث في الكواليس. فالإمبراطوريات تقود هجوماً استباقيًا على منافسيها المحتملين، ولا ترغب في ترك ثغرة يتسللون إلى أسواقها الرئيسية من خلالها. لكن لماذا يحدث ذلك؟
- أحد التفسيرات هو غريزة البقاء لدى تلك الشركات. فبعد أن رأت شركات كبرى كانت ملء السمع والبصر في يوم من الأيام تسقط وتختفي من على الساحة، أدركت هذه الشركات أن ميزاتهم التنافسية مهما كانت قوتها من الممكن أن تختفي في لحظة، إذا استمروا في التفكير والتعاطي مع السوق بنفس الطريقة.
- مجرد التفكير في الوضع الذي آلت إليه أحوال كل من "نوكيا" و"بلاك بيري" مرعب للجميع، أو حتى "هوليت-باكارد" المعروفة باسم "إتش بي".
- إن الوتيرة المتزايدة للابتكارت المزعزعة ليست مجرد سردية قصصية. فالبنظر إلى السنوات العشر الماضية، نجد أن 40% من الشركات المدرجة في قائمة أكبر 50 شركة أمريكية قد تغيرت. وبعضها خرج حتى من قائمة أكبر 500 شركة، مثل " كومباك" و"صن مايكروسيستمز"، والبعض الآخر تفكك ولم يعد موجودًا مثل "إنرون" و"كيه مارت".
في عصر الفيسبوك .. الصعود والانهيار قد لا يستغرق سوى أيام
- في عصر "الفيسبوك و"تويتر" أصبح بإمكان منتج أو خدمة أن تغزو العالم في غضون أيام قليلة. فالنسخة الإعلانية الأولى من لعبة "الطيور الغاضبة" تم تحميلها أكثر من مليون مرة في أول 24 ساعة من لحظة توافرها على أجهزة الآندرويد (هذا العدد كان مرشحًا للزيادة لو لا تعطل خوادم المطور). وبعد 7 أشهر من إطلاقها، تم تحميل اللعبة 200 مليون مرة.
- "تويتر" على سبيل المثال، بدأت حياتها التجارية بشكل متواضع في مؤتمر "ساوث باي ساوث ويست" عام 2007. أراد المطورون اختبار إمكانية إرسال رسائل نصية موحدة إلى العديد من المستخدمين في وقت واحد، وهي التكنولوجيا التي لم تكن جديدة تقريًبا في ذلك الوقت.
- اليوم تفتخر "تويتر" بامتلاكها 330 مليون مستخدم نشط شهريًا، وأكثر من نصف مليار تغريدة يوميًا. نجاح "تويتر" أدى إلى زعزعة استقرار الكثير من القطاعات، وبالأخص صناعة الأخبار.
- لكن هناك ملحوظة هامة، وهي أن الصدمات الناجمة عن "الابتكارات المزعزعة" تظهر بشكل أكبر في صناعة السلع والخدمات القائمة على المعلومات. فالأطعمة والسيارات على سبيل المثال، لا يمكن استبدالها بتطبيقات على الجوالات الذكية. ولكن المطاعم تعتمد الآن نظام الحجوزات عبر الإنترنت، والمراجعات التي يتم إنشاؤها من قبل العملاء. أما في صناعة السيارات، فنجد أن تكنولوجيا المعلومات تستخدم في تطوير لوحات قيادة غاية في التطور والتعقيد، وفي المستقبل غير البعيد، قد تتحكم في السيارات ذاتية القيادة.
- أخيرًا، إذا كنت واحدًا من كبار المسؤولين التنفيذيين داخل شركة كبيرة، تأكد من أن شركتك لديها استراتيجية تمكنها من استغلال "الابتكارات المزعزعة". في المرة القادمة التي تتحدث فيها أنت وزملاؤك، اسألهم عما إذا كان لدى الشركة القدرة على اختراق أسواق جديدة أو إعادة صياغة نموذج أعمالها الحالي.
- إذا نظر الجميع إلى بعضهم البعض، فاغرين أفواههم، فإن استراتيجية الشركة على الأرجح غير مكتملة وبها ثغرات، ولن تهرب الشركة من مصيرها المحتوم وإن طال الوقت: فإذا لم تنافس الشركة الآخرين في أسواقهم الموجودة بالفعل أو المحتملة، فيمكن لإدارتها أن تتأكد من المنافسين الجدد أو القدامى سوف يدمرونها، ويسيطرون على حصتها السوقية التي تبدو قنوعة بها الآن.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}