في الثالث عشر من سبتمبر/أيلول عام 1970، أي قبل أكثر من 47 عامًا، نشر زعيم مدرسة شيكاغو "ميلتون فريدمان" مقالًا في "نيويورك تايمز" تحت عنوان "عقيدة فريدمان: المسؤولية الاجتماعية الوحيدة للأعمال التجارية هي زيادة أرباحها".
حظيت هذه المقالة غير الأكاديمية باهتمام هائل لم تحظ به الكثير من الأفكار الاقتصادية، وهذا يرجع ربما إلى حقيقة أن كاتبها هو "ميلتون فريدمان" الاقتصادي الفائز بنوبل، الذي وصفته "الإيكونوميست" بأنه أكثر الاقتصاديين تأثيرًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، لا تزال الأفكار التي طرحت بهذه المقالة مثار نقاش وجدال بين الكثيرين في قطاع الأعمال والأوساط الأكاديمية، كما يتم تدريس النظرية والانتقادات الموجهة إليها في الفصول الدراسية بكليات الاقتصاد وإدارة الأعمال.
في هذه المقالة، حاول "فريدمان" مجابهة فكرة كانت قد بدأت تكتسب زخمًا في ذلك الوقت، وهي أن الشركات (وبالتبعية مديريها) يتحملون مسؤولية زيادة الرفاهية الاجتماعية، بحيث يمتنع مدير الشركة مثلًا عن زيادة سعر المنتج من أجل المساهمة في تحقيق الهدف الاجتماعي المتمثل في السيطرة على التضخم.
برأي "فريدمان"، إن تصرف إدارة الشركة بهذه الطريقة يضر بمصلحة الشركة ومساهميها، وعلى الرغم من أن هذه التصرفات تتسق مع المسؤولية الاجتماعية إلا أنها تقلل من عوائد المساهمين. وانطلاقًا من هذه النقطة، أشار "فريدمان" إلى أن الدافع الوحيد لقرارات مديري الشركات يجب أن يكون هو "تعظيم ثروة المساهمين".
التائبون من اعتناق عقيدة "فريدمان"
- في الثمانينيات والتسعينيات، كان أكثر المدافعين عن "عقيدة فريدمان" هما "روبرتو جويزويتا" و"جاك ويلش" المديران التنفيذيان لشركتي "كوكاكولا" و"جنرال إلكتريك"، واللذان اعتقدا بأن أي انحراف عن الالتزام الإداري بتعظيم ثروة المساهمين من شأنه أن يقوض أساس الرأسمالية الأمريكية.
- بعد فترة قصيرة من توليه منصب الرئيس التنفيذي لـ"جنرال إلكتريك" في عام 1981، ألقى "ويلش" خطابًا كشف فيه عزمه تصفية الشركات التابعة ذات الأداء الضعيف وخفض التكاليف بشكل فعال من أجل تحقيق نمو مستدام في أرباح الشركة تتجاوز نسبته نسبة نمو الاقتصاد العالمي في ذلك الوقت.
- قال حينها للصحفيين والمحللين الحاضرين للمؤتمر: "جنرال إلكتريك سوف تصبح القاطرة التي تسحب الناتج القومي الإجمالي، ولن تكون مجرد عربة في مؤخرة القطار" وذلك بحسب ما ذكره الأستاذ بجامعة كولومبيا "ليونارد شيرمان" في كتابه "إذا كنت في عراك مع الكلاب تصرف كالقطة: إستراتيجيات لنمو طويل الأجل" الصادر في عام 2017.
- خلال السنوات الـ20 اللاحقة، نجح "ويلش" في الوفاء بوعده إلى حد كبير، بعد أن ارتفعت القيمة السوقية للشركة تحت قيادته من 14 مليار دولار إلى 484 مليار دولار، مما جعلها أكبر الشركات في العالم من حيث القيمة السوقية في ذلك الوقت.
- خلال فترة مدتها 12 عامًا، نجحت "جنرال إلكتريك" في تحقيق إيرادات اتفقت مع أو تجاوزت توقعات المحللين في 46 ربعا سنويا من إجمالي 48 ربعًا، أي في 96% منها. وخلال 89% من تلك الأرباع، لم تأت ربحية السهم دون التوقعات ولو لمرة واحدة.
- في التاريخ المعاصر، لم يستطع أي شخص خلق قيمة سوقية بهذا الحجم كما فعل "ويلش"، ولذلك اعتبرته مجلة "فورتشين" في عام 1995 المدير التنفيذي للقرن العشرين. فكرة "تعظيم قيمة ثروة المساهمين" كانت هي الشغل الشاغل والمحرك الرئيسي لـ"ويلش".
- لكن بعد 8 سنوات من تركه لمنصبه وتحديدًا في الـ12 من مارس/آذار 2009، أعلن "ويلش" بشكل مفاجئ تغير وجهة نظره حول ترتيب أولويات الشركات أثناء تعليقه على خبر انخفاض قيمة "جنرال إلكتريك" بنسبة 25% مقارنة مع ذروة قيمتها تحت قيادته، ليتخلى عن ولائه لعقيدة فريدمان، ويشير إلى أن تعظيم ثروة المساهمين هي نتيجة ولا يجب أن تكون إستراتيجية للشركات.
- لكن ما الذي حدث وجعل أشهر تلميذ لعقيدة "فريدمان" يعيد التفكير في وجهات نظره بشأن أولويات الشركات؟ يروي "ويلش" حادثًا وقع خلال الثلث الأخير من فترة ولايته كرئيس تنفيذي قائلًا:
- "في ليلة الخميس الموافق الرابع عشر من أبريل/نيسان عام 1994 وبينما كنت أستعد لمغادرة المكتب جاءني اتصال من مدير شركتنا التابعة "جنرال إلكتريك كابيتال" قال لي خلاله "لدينا مشكلة، هناك فجوة بقيمة 350 مليون دولار في الحساب الخاص بأحد المتعاملين، ولا نستطيع تحديد هويته. لقد اختفى".
- يتابع "ويلش سرد ما حدث قائلًا: "لقد أخبرني بأن الشخص الذي يدير مكتب السندات الحكومية بالشركة قام بسلسلة من الصفقات الوهمية لتضخيم المكافأة الخاصة به. ومن أجل تنظيف هذه الفوضى سنحتاج إلى خصم المبلغ من أرباح الربع الأول". بعد أن سمع ذلك هرع "ويلش" إلى الحمام وأفرغ ما في معدته.
- في مساء الأحد التالي، اتصل "ويلش" بـ14 من قادة الشركة لإطلاعهم على ما حدث، بعد أن اعتذر منهم. وشعر بالرهبة والخوف لأن هذا الخبر المفاجئ سوف يضر بقيمة السهم، وسيؤثر كذلك سلبًا على موظفي الشركة.
- خوف "ويلش" لم يكن سببه افتقار الشركة إلى الضوابط التي يمكنها الحيلولة دون وقوع مثل هذه التصرفات أو احتمال تعرض أعمال الشركة الأم للخطر على خلفية الكارثة التي تورط بها ذراعها المالية، وإنما كل ما كان يشغل باله هو أن الشركة لأول مرة منذ فترة طويلة ستحقق أرباحًا دون توقعات المحللين.
- اعترف "ويلش" بأنه خلط بين الإستراتيجية والنتائج، وركز بشكل كبير على المكاسب قصيرة الأجل وتعزيز قيمة السهم على حساب العملاء، وأن إدارته لم تكن مهتمة بتحقيق النمو المربح على المدى الطويل. وأصبح مذهبه الجديد "أولوياتك كمدير للشركة يجب أن تكون كالآتي: موظفوك ثم عملاوك ثم منتجاتك وأخيرًا المساهمون".
"جاك ما" و"جيف بيزوس": عملاؤنا أولًا ثم أي شيء آخر
- في عام 2014، وأثناء استعداده لما أصبح لاحقًا أحد أكبر الاكتتابات العامة في التاريخ، وجه "جاك ما" الرئيس التنفيذي لعملاق التجارة الإلكترونية "علي بابا" كلمة إلى المستثمرين المحتملين قال فيها "إن شركتنا تضع مصلحة العملاء أولًا ثم الموظفين ثانيًا ثم المساهمين ثالثًا".
- بعد أن رأى الحيرة في عيون الكثير من المستثمرين الحاضرين قال "ما": اسمحوا لي أن أوضح ذلك: نحن كفريق إداري للشركة نعتقد بأن السبيل الوحيد لنجاح "علي بابا" في خلق قيمة طويلة الأجل للمساهمين هو من خلال خلق قيمة مستدامة للعملاء، ولذلك يجب أن يأتي العملاء في صدارة أولوياتنا. وتابع "ما" قائلًا: "شركتنا لن تتخذ قراراتها أبدًا على أساس الإيرادات أو الأرباح قصيرة الأجل".
- "جيف بيزوس" الرئيس التنفيذي لـ"أمازون" لديه فلسفة مشابهة لفلسفة "ما" في التعامل مع المساهمين، ففي رسالته الأولى كرئيس تنفيذي للشركة إلى المساهمين في عام 1997 قال "بيزوس":
- "نود أن نشارككم النهج الأساسي الذي سيحكم طريقة إدارتنا للشركة، لكي تقرروا إذا ما كان يتفق أو لا مع فلسفتكم الاستثمارية: عملاؤنا سيظلون في صدارة أولوياتنا، وسوف نتخذ قراراتنا الاستثمارية في ضوء الاعتبارات السوقية طويلة الأجل، وليس على أساس الربحية في المدى القصير. ونحن لا ندعي بأن ما سبق هو الفلسفة الاستثمارية الصحيحة، ولكننا سنعتبر أنفسنا مقصرين إذا لم نوضح لكم نهجنا الذي اتبعناه وسنظل نتبعه في سنواتنا القادمة".
- "بيزوس" اتبع بإخلاص هذه المبادئ ولم ينحرف عنها، وعبر عن غضبه أكثر من مرة من مستثمري وول ستريت الذين ضغطوا على إدارة الشركة في سنواتها الأولى من أجل دفعها إلى تحقيق المزيد من الأرباح. ولكن أداء "أمازون" حاليًا وقيمة ثروة مؤسسها تدلان على أن التركيز الشديد على العملاء والاهتمام بالنمو طويل الأجل يمكنه أن يحقق الكثير للموظفين والمساهمين.
- في قائمة مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو" لأفضل المديرين التنفيذيين في العالم خلال عام 2015، احتل "جيف بيزوس" صدارة الترتيب استنادًا إلى العائد الإجمالي الذي حققه مساهمو الشركة، وقيمتها السوقية. حتى عام 2015، تمكن مساهمو أمازون من تحقيق عائد على رأس المال قدره 20000% بفضل سياسات "بيزوس".
عاقبة الاستهتار بالعملاء
- لعقود، تعرضت شركة السيارات الأمريكية "جنرال موتورز" إلى انتقادات واسعة بسبب استخفافها وعدم اهتمامها بعملائها. في عام 1965، قام موظف بالكونجرس يدعى "رالف نادر" بنشر كتاب سماه "غير آمنة على أي سرعة" وثق خلاله خطورة عيب تصنيعي موجود في سيارة " شيفروليه كورفاير".
- تسبب هذا العيب التصنيعي في عدة حوادث قاتلة، ولكن "جنرال موتورز" من جهتها لم تحاول معالجة الأمر، وتجاهلت الأدلة المنشورة، وحاولت تشويه سمعة "نادر" من خلال تعيين أشخاص يتنصتون على هاتفه، ويقلبون في ماضيه بحثًا عن أي معلومة يمكنهم استخدامها في مساومته.
- قام "نادر" بمقاضاة الشركة بتهمة الاعتداء على خصوصيته. ولسوء حظ الشركة ساهمت التغطية الصحفية للقضية في إعطاء شهرة للكتاب الذي لم يكن منتشرًا على نطاق واسع. تمت إدانة "جنرال موتورز" بالمراقبة غير القانونية، قبل أن تضطر إلى إعادة تصميم نظام التعليق المعيب في "شيفروليه كورفاير".
- بعد 4 عقود تقريبًا وتحديدًا في عام 2004 عادت الشركة إلى الواجهة مرة أخرى مع فضيحة مشابهة، بعد أن ثبت أنها تعمدت تجاهل دليل داخلي يشير إلى وجود عيب تصميمي قاتل في لوحة تشغيل إحدى سياراتها تسبب في مقتل أكثر من 100 شخص. بسبب استهتارها المستمر بعملائها إلى جانب أسباب أخرى، "جنرال موتورز" التي كانت في يوم من الأيام أكبر شركة في الولايات المتحدة، أعلنت إفلاسها في عام 2009.
- العميل ثم الموظف وأخيرًا المساهم. هكذا تدار شركات مثل "أمازون" و"علي بابا".
- ما تعليقك الآن؟ انضم إلى النقاش حول الترتيب الأمثل لأولويات الشركات.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}