"العولمة" مفهوم ظهر ليعبر عن تكامل الاقتصاديات حول العالم وحرية التجارة وحركة رؤوس الأموال والبيانات عبر الحدود.
وهذا المفهوم بدأ في التبلور تدريجيًا في أعقاب الحرب العالمية الثانية من خلال الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
القطيع يتفرق!!
غير أن الاقتصادي البريطاني الشهير "ستيفن كينج" يشير في كتابه "قبر العالم الجديد: نهاية العولمة" إلى أن ترتيبات العولمة القائمة كلها تبدو إلى زوال قريبًا.
ويقول كينج في كتابه إن الشعار الذي ترفعه الإدارة الأمريكية بأن "أمريكا أولا" في ظل حكم ترامب يهدم تلك المؤسسات التي تقوم برعاية العولمة عالميًا.
كما أن تصويت بريطانيا لعدم الانضمام للاتحاد الأوروبي يعكس توجهًا انعزاليًا أيضًا، أما اليمينية المتطرفة ماري لوبان فقد وصلت إلى نهائي سباق الرئاسة الفرنسي وخرجت من الظل.
أما فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر فإنه يقود بلاده "بفخر" إلى أن تصبح "ديمقراطية غير ليبرالية" برفضه استقبال أي لاجئين.
كل ما سبق يعكس توجهات انعزالية وليس توجهات نحو المزيد من الاندماج، بما يعني أن الأفكار التي قامت عليها العولمة تتراجع.
ويقول كينج في كتابه إنه من الصحيح أن العولمة تقوم على التقدم التكنولوجي، غير أن الأخير يعد بمثابة العامل المحفز للعولمة وليس أساسها المتين.
فأساس العولمة في العالم الحديث هو التوافق حول مجموعة من الأفكار الاقتصادية التي صنعت عالمنا المعاصر، وأهمها على الإطلاق حرية الحركة والتبادل.
"عندما يتم تقويض الأفكار التي يقوم عليها عالمنا المعاصر، وتعجيز المؤسسات الاقتصادية الدولية، فإن التقدم التكنولوجي لن يكون قادرًا وحده على إنقاذ المشهد".
ويرى كينج أن نهاية العولمة أصبحت حتمية في مرحلتها الأخيرة، ويستدل على ذلك بما حدث قبل الحرب العالمية الأولى.
عولمة ما قبل الحرب العالمية الأولى؟!
فالعولمة التي يشهدها عالمنا المعاصر ليست التجربة الأولى في هذا الصدد، بل إن التجارة العالمية زادت من 8 مليارات دولار عام 1896 إلى 18 مليار دولار عام 1913 قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
وجاء ذلك بفعل التطور النسبي وقتها في التكنولوجيا الصناعية وتكنولوجيا النقل فضلًا عن موقع بريطانيا العظمى المميز وقتها في النظام العالمي.
كما ازدهرت ظاهرة الهجرة بشدة في تلك الفترة وأصبح تحويل رؤوس الأموال من دولة إلى أخرى رائجًا.
غير أن قيام كافة تلك الإنجازات الاقتصادية على أسس غير عادلة في مرحلة الاستعمار سرعان ما قاد العالم إلى الحرب العالمية الأولى.
ويبدي الكتاب قلقه من أن هناك تهديدات مماثلة تهدد العولمة الاقتصادية لعالمنا المعاصر ستؤدي حتما إلى انهيار النظام القائم.
فمن غياب العدالة إلى الهجرة الكبيرة وبعض أشكال التكنولوجيا المدمرة إلى السياسات النقدية المتصارعة للبنوك المركزية لمختلف الدول يبدو أن نظام العالمي يتراجع.
ويأتي تراجع الولايات المتحدة –النسبي- من أسباب يقين الكاتب بنهاية العولمة الاقتصادية واندلاع عصر تسوده التوترات والصراعات.
أما عن غياب العدالة فلا شك أن سياسات العولمة الاقتصادية الحالية تساعد على توجيه الثروة إلى الـ1% من أغنياء العالم وتترك بقيته تعاني.
ففي الولايات المتحدة 1% فقط من السكان يسيطرون على 41% من الثروة منذ ثمانينيات القرن الماضي دون تغيير.
وفي الوقت الذي شهدت فيه الطبقة المتوسطة في الصين تضاعف دخلها أكثر من مرتين بين عامي 1988 -2008 لم تشهد مثيلتها في الدول الغربية إلا زيادة محدودة للغاية في الدخل.
وربما جعل هذا 85% من الصينيين يعتقدون أن المستقبل سيكون أفضل بينما تقل النسبة إلى 30% من الأمريكيين و23% بين البريطانيين.
رفض للهجرة وتكنولوجيا "شريرة"
ويأتي ثاني عوامل انهيار نظام العولمة الاقتصادي في العداء المتنامي لظاهرة الهجرة، ورفض العديد من الدول لاستقبال اللاجئين بما يجعل حرية الحركة، وهي ركن من أركان نظام العولمة، في خبر كان.
ففي الوقت الذي قال 86% من المصوتين لترامب إنهم يرون أن مشكلة الهجرة تتفاقم، ترفض دول مثل المجر والتشيك استقبال أي لاجئين.
ويعتبر الكتاب أن العداء ضد المهاجرين ليس بالأمر الجديد ولكن الجديد هو وجود حكومات تجاهر بذلك، ولا تسعى للحصول حتى على أفضل العناصر ممن يأتونها من خارج البلاد بل ترفض وجودهم من حيث المبدأ.
أما ثالث عوامل انهيار نظام العولمة فيتمثل في "التكنولوجيا الشريرة"، فمع ازدياد الاعتماد على الماكينات وتراجع نسبة الاعتماد على البشر في الإنتاج نزعت الكثير من الشركات إلى نقل خطوط إنتاجها إلى دول الاستهلاك.
واللافت أن هذا الاتجاه يتزايد باستمرار، بما يعني تراجعًا في التجارة الدولية في المستقبل القريب، مما سيؤدي بالدول إن آجلًا أو عاجلًا إلى اللجوء إلى الإجراءات الحمائية لصناعاتها واتخاذ سياسات اقتصادية تميل للعزلة.
ويتمثل رابع عوامل انهيار اقتصاديات العولمة في السياسات النقدية المتعارضة للدول.
ويلفت الكتاب إلى أن الدول لجأت في فترة الكساد الكبير إلى السياسات النقدية للسيطرة على مؤشرات مثل النمو والتوظيف، ومع تراجع معدلات النمو العالمي بشكل كبير حاليًا فإنه من المتوقع أن تعود الدول لمثل تلك السياسات.
ويرى "كينج" أن الدول قد تعمد إلى اتخاذ سياسات الهدف منها إجبار الدول الأخرى على تغيير سياساتها النقدية، دون اتخاذ إجراءات اقتصادية حقيقية بمعنى أن الدول ستلقي بعبء التغيير على بعضها البعض دول التخلص من المشاكل الاقتصادية العالمية القائمة.
صراع صيني- أمريكي متوقع!!
ويأتي تراجع الولايات المتحدة (النسبي) كأحد أهم عوامل إنهاء نظام العولمة الاقتصادي، حيث إن الولايات المتحدة نافسها في بادئ الأمر الاتحاد السوفيتي ثم اليابان ثم الصين.
واللافت في المنافسة مع الصين أنها تتخذ طابعًا اقتصاديًا أكثر من أي شيء، بما يجعل تراجع نسبة الولايات المتحدة وحلفائها من الإنتاج العالمي مقابل نمو نسبة الصين والدول الناشئة محل صراع.
فلا شك أن الصين والدول الناشئة ترغب في إجراء تعديلات كبيرة على بنية الاقتصاد الدولي،تلك التغييرات التي لا تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها القبول بها لما فيها من أضرار عليها.
ويشير كينج في كتابه إلى حديث الرئيس الصيني أمام منتدى دافوس 2017 بقوله "سبب مشكلات العالم حاليًا هو نظام العولمة"، مضيفًا أن بكين تريد تغيير النظام ليس بحثًا عن العدل ولكن عن مصالحها.
وعلى ما يبدو فإن هذا الكتاب بمثابة معارضة واضحة لكتاب فوكياما "نهاية التاريخ" الذي يؤشر فيه إلى أن سيطرة الحضارة الغربية على العالم ستستمر إلى ما لا نهاية.
ويقول كينج في كتابه "نظام بريطانيا انهار بالحرب العالمية الأولى عندما لم يتوقع أحد ذلك، ونظام ما بعد الحرب العالمية الأولى انهار بغتة أيضا بالثانية، ألم يحن الوقت لنعرف أن أي نظام يحتاج لإصلاحات إذا أراد أن يستمر ويبقى؟".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}