لعقود طويلة، تم تقسيم دوري البيسبول الأمريكي بين فرق كبرى غنية مثل "نيويورك يانكيز" وأخرى صغيرة وفقيرة مثل "مينيسوتا توينز". فالأولى تحتل الصدارة والثانية تتنافس على أفضل مرتبة ممكنة في مؤخرة الترتيب.
كانت قيمة كشوف مرتبات لاعبي الفرق الكبيرة تصل إلى ثلاثة أضعاف نظيرتها لدى الفرق الصغيرة. وبالتالي، فرق مثل "يانكيز" و" أتلانتا بريفز" (المدعومة بإيرادات البث التلفزيوني الكبيرة) نجحت في بسط سيطرتها على اللعبة.
ولكن في بداية الألفية الثالثة، نجح فريق "أوكلاند أثليتيكس" وهو أحد أفقر الفرق في دوري البيسبول الأمريكي في التغلب على الكبار وتحطيم عدد من الأرقام القياسية الراسخة منذ عقود، بعد أن تمكن من الفوز بعدد مذهل من المباريات.
مع افتتاح موسم عام 2002، كانت قيمة كشوف مرتبات لاعبي "يانكيز" تبلغ حوالي 126 مليون دولار، بينما لم تتجاوز مرتبات لاعبي "أوكلاند" حاجز 34 مليون دولار، ورغم ذلك تمكن الأخير من معادلة الرقم القياسي الخاص بالأول بعد أن تمكن من الفوز بـ103 مباريات.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف تمكن "أوكلاند" من تحقيق هذا السجل المذهل رغم الضعف الواضح لموارده المالية في مقابل فرق كبرى على استعداد لدفع أطنان من الأموال من أجل الحصول على أي موهبة؟
ما تجاهله الجميع
في رائعته "كرة المال، فن الفوز بلعبة غير عادلة" يروي لنا الكاتب "مايكل لويس" كيف تمكن "بيلي بين" المدير العام الكاريزمي لـ"أوكلاند أثليتيكس" في تغيير تركيبة فريقه رأسًا على عقب من خلال استخدام سلاح لم يكن معروفًا في ذلك الوقت، وهو تحليل الإحصاءات والبيانات.
للوهلة الأولى، قد يبدو لك موضوع الكتاب وكأنه رياضي بحت، ولكنه أكثر من ذلك بكثير، فهو حكاية ملهمة حول الإدارة الذكية لقواعد البيانات والإحصاءات، كما أن "لويس" يسوق بين السطور بعض الدروس التي تجعل هذا الكتاب يستحق الاهتمام حتى من قبل أولئك الذين لا يعرفون عن رياضة البيسبول أو "كرة القاعدة" أكثر من اسمها.
منذ أن تولى "بين" إدارة "أوكلاند" في عام 1999 نجح الفريق في تحقيق أرقام مذهلة. ففي نفس العام، والذي كان يحتل فيه "أوكلاند" المرتبة الـ11 (من أصل 14 فريقًا) في الدوري الأمريكي من حيث قيمة المرتبات، تمكن الفريق من احتلال المرتبة الخامسة من حيث الانتصارات.
ثم في عام 2000، نجح الفريق في احتلال المرتبة الثانية من حيث عدد الانتصارات بالدوري، رغم تراجعه في ترتيب قيمة المرتبات إلى المرتبة الـ12، وهو إنجاز تم تكراره في عام 2001. وفي عام 2002، احتل الفريق أيضًا المرتبة الـ12 من حيث قيمة المرتبات، ولكنه تمكن هذه المرة من احتلال المركز الأول من حيث عدد الانتصارات.
كيف تمكن "بين" من فعل ذلك؟ ببساطة، نجح "بين" في تحقيق هذا السجل المذهل من خلال تجاهل الطريقة التقليدية التي تدار بها فرق البيسبول، أو كما يطلق عليها في لغة البيسبول "ذا بوك".
اتضح لـ"بين" أن هذه الطريقة فاشلة في تقييم اللاعبين بشكل صحيح. ومن هنا حاول بشكل علمي معرفة كيف يمكنه التعرف على اللاعب الذي بإمكانه زيادة فرص فريقه. وفي سعيه لذلك، اعتمد على أدلة موضوعية متجاهلًا النصائح التقليدية الرائجة من قبل كشافة اللاعبين.
على سبيل المثال، من خلال تحليل البيانات والإحصاءات، وجد "بين" أن اللاعبين الذين لم يتركوا الدراسة بعد المرحلة الثانوية أقل احتمالًا أن ينجحوا في اللعبة مقارنة مع أولئك الذين أنهوا تعليمهم الجامعي، ولذلك رفض ضم أي لاعب متخرج من المدرسة الثانوية، بغض النظر عن الموهبة التي تظهرها طريقة لعبهم.
أين أنفق أموالي المحدودة؟
وظف "بين" لديه مساعدا شابا يدعى "بول ديبوديستا" درس الاقتصاد بجامعة هارفارد، وكان الأخير يرافقه حاملًا حاسوبه الشخصي الذي يقوم عليه بتقييم اللاعبين من خلال استخدام أساليب إحصائية، وهي الطريقة التي تتحدى قواعد راسخة في كيفية تعيين المواهب يتبعها الكشافة المخضرمون للاعبين منذ عقود.
كان "بين" مهتمًا بالحصول على إجابة سؤال بسيط جدًا، هو: ما هي الطريقة الأكثر فعالية لإنفاق المال على لاعبي البيسبول؟ ولحسن حظه تمكن من العثور على إجابة غير مباشرة لهذا السؤال عبر مطالعة كتابات الكاتب الإحصائي الغامض "بيل جيمس" حول البيسبول.
كان "جيمس" يعتقد أن الإحصاءات التقليدية حول اللعبة غير مفيدة وأحيانًا مضللة، وفي كتاباته التي اطلع عليها "بين" نجح في تحطيم خرافات لا تعد ولا تحصى حول ما هو مهم من أجل الفوز في البيسبول، كما وضع صيغة يمكن من خلالها التنبؤ بموهبة اللاعب من خلال متابعة جوانب محددة في طريقة أدائه.
كان لكتابات "جيمس" شعبية كبيرة بين محبي البيسبول، ولكنّ خبراء اللعبة ومديري الفرق تجاهلوها بشكل غريب، ولم يكن لأطروحاته أي تأثير على طريقة إدارتهم لفرقهم، وذلك ربما لأنهم اعتقدوا أن الطرق المجربة أكثر فاعلية.
متجاهلًا الحكم التقليدية التي تحكم اللعبة منذ عقود، وبمساعدة الأساليب الإحصائية، نجح "بين" في التعاقد مع اللاعبين الشباب الذين لا ترغب بهم الفرق الأخرى. هؤلاء اللاعبون كان قد تم تجاهلهم من قبل الكشافة، وذلك لأن أداءهم لم يتطابق مع العقلية التي تحكم طريقة استكشاف المواهب في ذلك الوقت.
الاستفادة من جهل المنافسين
الأسلوب الإحصائي كان هو الحل الوحيد للمشكلة الكبرى التي يواجهها "بين" وهي: كيفية الحصول على مواهب من الدرجة الأولى دون أن يضطر الفريق لدفع الكثير من المال. وهكذا تجنب أن تنافسه فرق غنية مثل "يانكيز" على اللاعبين الجيدين.
في عام 2001، نجح "أوكلاند" في الفوز بـ102 مباراة في موسم عادي، وهو ثاني أعلى سجل فوز في تاريخ الدوري الأمريكي. ولكن في ذات العام فقد الفريق أفضل ثلاثة لاعبين لديه، وتوقع الجميع أن تكون هذه هي بداية سقوط كارثي لـ"بين" وفريقه.
لكن مرة أخرى، من خلال الاستعانة بالأساليب الإحصائية نجح "بين" في استبدال اللاعبين بآخرين، وتمكن الفريق في الموسم التالي من الفوز بـ103 مباريات، وهو سجل الفوز الأكبر في تاريخ الدوري الأمريكي، رغم أن رواتب كامل الفريق لم تتجاوز 34 مليون دولار، أي أقل من ثلث ميزانية "يانكيز" وكذلك أقل من نصف ميزانية فريق مثل "سياتل مارينرز".
بحسب "لويس"، نجح "بين" بفريقه الفقير في تحقيق هذه الإنجازات، لأنه كان جريئًا بما يكفي لتجاهل الحكم التقليدية السائدة، واستخدام نهج آمن بأنه أكثر فاعلية، ودافع عنه بكل ما أوتي من قوة، لدرجة أنه قام بفصل أحد الكشافة العاملين لدى الفريق بعد أن اعترض على أسلوبه في اكتشاف المواهب.
استفاد "بين" أيضًا من جهل منافسيه بالإستراتيجية الصحيحة التي تحكم البيسبول، وأثبت أن الإدارة الذكية لا تزال قادرة على التغلب على أكوام من النقد تنفق بشكل أعمى.
أخيرًا، القصة التي ساقها "مايكل لويس" في كتابه (الذي أنتج كفيلم أيضًا) إنسانية أكثر من كونها رياضية.
فمعظم الناس بما في ذلك الخبراء، يميلون إلى الاعتماد على قواعد بسيطة مستمدة من العادات والتقاليد وأحيانًا من الاعتقادات الخاصة بخبراء آخرين، وقليلون جدًا هم من يملكون الجرأة الكافية للتخلي عن حدسهم البسيط لصالح التقييمات الدقيقة والموضوعية للأدلة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}