تخيل مثلًا لو أصبح التزوير فجأة غير مُجرّم قانونيًا. وطلبنا من الناس عدم القيام به، ولكن في غياب أي عقوبة تردع فاعله. ما الذي قد يحدث؟
ببساطة، سيتم إغراق السوق بكميات هائلة من الأموال المزورة. فإذا كان بإمكان الناس شراء أي شيء بعملة لا تكلفهم سوى قيمة الورق والحبر الذي تطبع به، فما الذي يمنع الكثير منهم من فعل ذلك.
ومع الوقت سيزداد حجم الأموال المزورة الموجودة في دائرة التبادل النقدي، لتخرج الأموال الحقيقية بشكل تدريجي من السوق.
وفي الوقع يوجد هناك قانون اقتصادي يفسر هذه الظاهرة يسمى "قانون جريشام"، والذي يمكن تلخيصه في العبارة التالية: النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق".
ومن أجل فهم أفضل لهذا القانون وتطبيقاته الحالية، من المهم جدًا العودة إلى أصوله وظروف نشأته.
أصل القصة
- استوحى السير "توماس جريشام" (1519- 1579م) مستشار ملكة إنجلترا القانون المسمى باسمه من أزمة النظام النقدي ثنائي المعدن (الذهب والفضة). ولتوضيح طبيعة ما حدث سنضرب المثال التالي.
- لكن قبل البدء، ومن أجل بناء نموذج بسيط، سنفترض الافتراضات التالية: أولًا، نسبة السعر العالمي للفضة مقابل الذهب يساوي 15.2 إلى 1 ، أي أن 15.12 جرام من الفضة يمكنها شراء واحد جرام من الذهب (والعكس بالعكس).
- النظام النقدي في البلد الذي سنقوم بتحليله، هو نظام ثنائي المعدن يمكن خلاله تداول الذهب والفضة على حد سواء، كما يتم اعتماد نظام "العملة الحرة" بمعنى أنه بإمكان الجمهور جلب الذهب والفضة إلى مصلحة سك العملة من أجل سكها لتصبح نقودًا.
- هذا البلد بعينه لا يمتلك تأثيرًا كبيرًا على السعر العالمي للذهب أو الفضة، وبالتالي لا يؤثر على النسبة بين سعريهما. ولكن إذا قررت حكومة هذا البلد تثبيت سعر الفضة إلى الذهب عند 15 إلى 1، وبالتالي أصبح السعر العالمي للذهب أعلى بالنسبة للجمهور، مقارنة مع السعر الذي تعرضه مصلحة سك العملة، وبالعكس، أصبح سعر الفضة المحلي أعلى مقارنة مع سعرها العالمي.
- ما سيحدث، هو أن هذه السياسة ستؤدي إلى خروج الذهب بشكل تدريجي من دائرة التداول، وذلك لأنه سيتم اكتنازه أو تصديره إلى الخارج من قبل مواطني البلاد، الذين سيحاولون الاستفادة من الفارق السعري، بينما ستُغرق الفضة النظام النقدي، وذلك لأن المضاربين الأجانب والمواطنين على حد سواء يستفيدون من المبالغة في قيمتها.
- في هذا المثال البسيط، كانت قيمة الفضة مبالغا فيها، بينما كان الذهب مقيما بأقل من قيمته، وبالتالي، يمكن الإشارة إلى الفضة على أنها "المال الرديء" والذهب هو "المال الجيد".
- هذا النظام النقدي لن يستعيد توازنه إلا إذا تم رفع سعر الذهب في السوق المحلي ليماثل السعر العالمي البالغ 15.12 جرام فضة مقابل كل جرام من الذهب. وهناك نقطة مهمة أخرى، وهي أن المبالغة في سعر الفضة تسببت في تحويل النظام النقدي في البلاد – الذي من المفترض أنه ثنائي العملة – إلى نظام يعتمد "معيار الفضة" بحكم الأمر الواقع.
- هذا يقودنا إلى نقطة أخرى، وهي أن قانون "جريشام" تقل أهميته في إطار نظام النقود الورقية، لأنها على عكس النقود المعدنية، لا يمكن إذابتها وتصديرها للخارج أو بيعها بالوزن، ولذلك تنحصر تطبيقات قانون "جريشام" بشكل ما في ظل النظم النقدية الحديثة.
التطبيقات الحديثة للقانون
- في مجتمعنا الحالي، المعلومات هي العملة التي نتداولها بشكل يومي، وشبكة الإنترنت هي السوق الحالية للتبادل. وإذا حاولنا هنا تطبيق قانون "جريشام"، سيتوجّب علينا إجابة السؤال التالي: هل المعلومات السيئة تطرد المعلومات الجيدة؟
- في مؤتمر عقد في البيت الأبيض عام 1979 حول علم المكتبات والمعلومات، أشار المؤرخ الأمريكي " دانيال جاي بورستين" إلى الآثار المترتبة على تكنولوجيا القرن العشرين (الإذاعة والتلفزيون) التي تنتج المعلومات بكثرة وبشكل سريع.
- علق "بورستين" على هذه التكنولوجيا الناشئة قائلًا "في إصدارنا الساخر في القرن العشرين من قانون جريشام، تميل المعلومات السريعة إلى دفع المعرفة خارج دائرة اهتمام الجمهور".
- لكن هل فعلًا قانون جريشام ينطبق على هذه الحالة؟ هل المعلومات السيئة تطرد المعلومات الجيدة؟ إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية التعليم فالإجابة الأولية ستكون بلا شك "نعم"، حيث اكتشف أخصائيو التوعية في الولايات المتحدة أن الطلاب يعتمدون على الإنترنت بشكل كبير كمصدر لمعلوماتهم، وأن ما يستخرجونه من معلومات يغلب عليه السيئ أكثر من الجيد.
- تعتقد "تارا برابازون" أستاذة الإعلام في جمعة "برايتون" أن الإنترنت، يساهم في "تسطيح خبرة" المستخدمين، وذلك لأن كل المعلومات الموجودة على الإنترنت تتمتع بنفس القدر من المصداقية بالنسبة لهم، ويعتقدون دائمًا أن النتيجة الأولى في محرك البحث هي الأكثر موثوقية.
- رغم انحسار تطبيقاته في النظام النقدي، لا يزال قانون "جريشام" حيًا في اقتصاد المعلومات، فكما أشار "روبرت ماندل" الفائز بجائز نوبل بالعلوم الاقتصادية لعام 1999، "القوة المحفزة التي يقوم عليها قانون جريشام هي الاقتصاد: نحن ما زلنا نحاول تسوية ديوننا ومعاملاتنا بأرخص وسيلة دفع".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}