قد يفاجأ البعض بمعرفة أن أكبر لاعب أجنبي في أفريقيا وأكبر شريك تجاري للقارة السمراء وأكبر ممول للبنية التحتية هناك، ومصدر الاستثمار المباشر الأسرع نموًا هي: الصين.
وينتشر رواد الأعمال الصينيون اليوم في كافة أنحاء القارة، ويستثمرون في أصول طويلة الأجل مثل المصانع والمعدات الثقيلة. ولكن بالنظر إلى تاريخ القارة مع قوى الاستعمار – واستدعاءً لنظرية المؤامرة – يمكن للمرء أن يشك في أن نشاط الصين هناك ما هو إلى حالة أخرى من الحالات التي تقوم فيها القوى الأجنبية باستغلال موارد القارة.
ولكن في كتابها الصادر هذا العام تحت عنوان "مصنع العالم القادم" توضح الكاتبة "آيرين صن" قصة رواد الأعمال الصينيين الذين يبنون أفريقيا، وسعي الصين لجعل القارة قوة تصنيع عالمية، وكيف أن بكين ترى أفريقيا ليس كمستنقع للفقر والأمراض، وإنما منطقة يمكنها أن تفعل الكثير لنفسها ولغيرها بثرواتها المحتملة.
أفريقيا بين الشرق والغرب
- في الحقيقة إن الموقف الصيني تجاه أفريقيا، يناقض بشكل صارخ موقف الدول الغربية، ولا سيما موقف الولايات المتحدة. فعلى الرغم من برامج المساعدات الغربية المستمرة منذ 50 عامًا، لا تزال القارة تعاني من الفقر المدقع أكثر من أي مكان على سطح الكوكب.
- المشكلة هي قناعة الجميع بأن رفع مستويات المعيشة في القارة يستلزم إستراتيجية أخرى، ولكن لم يكن هناك من هو جاد حول هذا الأمر سوى الصين، والتي تؤمن قيادتها السياسية بأن أفريقيا تستطيع التصنيع للجيل القادم.
- مع التحول الذي تقوده الصين في القارة تحديدًا في قطاع الصناعات التحويلية، ستمضي أفريقيا على خطى الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، واليابان في أوائل القرن العشرين، والنمور الآسيوية في أواخر القرن الماضي.
- البعض قد يقول إن هذه الطريقة في التنمية قديمة، وهذا صحيح، ولكن الواقع يثبت أن هذه الطريقة هي الوحيدة التي تمكنت من رفع مستويات المعيشة في المجتمعات بصفة دائمة.
- مما لا شك فيه، أن برامج التنمية الغربية التي تساعد في أمور مثل التعليم والصحة مهمة بالنسبة للأفارقة، ولكنها في نفس الوقت لن تخلق 100 مليون وظيفة تحتاجها القارة، وكذلك لن تُخرج حوالي نصف مليار إنسان من براثن الفقر.
- على مدى النصف قرن الماضي، كانت أفريقيا المكان الرئيسي الذي يتم فيه اختبار الأفكار الغربية حول كيفية التخفيف من وطأة الفقر، لكن الصينيين كانوا جادين بما فيه الكفاية لإدراك أن رفع مستويات المعيشة في هذه المنطقة الواسعة من العالم يتطلب اتباع نهج جديد.
المصانع وليس المساعدات العينية
- زارت " صن" أكثر من 50 مصنعًا صينيًا في أفريقيا وتحدثت مع العديد من رجال الأعمال الصينيين العاملين بالعديد من القطاعات في القارة الأفريقية، وقابلت كذلك حوالي 100 فرد من العمال الأفارقة، فضلًا عن مسؤولين حكوميين وصحفيين وجهات نقابة تتعاون من الصينيين، وتزيل كافة العقبات من أمامهم.
- في العام 2000، لم تقم الشركات الصينية سوى باستثمارين في أفريقيا، أما اليوم فهي تقوم بمئات الاستثمارات كل عام. كما أوضحت دراسة بحثية صادرة مؤخرًا عن شركة "ماكينزي" شملت 8 بلدان أفريقية، وجود أكثر من 500 شركة صينية تعمل في مجال التصنيع فقط.
- لأول مرة، بدلًا من الغذاء والدواء، هناك شيء جديد بدأ بالفعل في الانتقال إلى القارة، وهو: المصانع. فالمصانع، أصبحت بمثابة الجسر الذي يربط الصين (المصنع الحالي للعالم) بأفريقيا (مصنع العالم القادم). فعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، تم إخراج الكثير من المصانع من الصين بسبب ارتفاع التكاليف، وانتهى الحال بالعديد منها في أفريقيا.
- بعض هذه المصانع والشركات جذبتها الأسواق المحلية التي تشهد نموًا سريعًا، مثل نيجيريا، والتي سيتجاوز عدد سكانها نظيره لدى الولايات المتحدة بحلول عام 2050. ولذلك دخل صناع السيارات ومنتجو مواد البناء ومصنعو المواد الاستهلاكية الصينيون إلى هذا السوق، أملًا في الاستفادة من هذه الفرصة.
- لكن، هناك شركات صينية أخرى لديها نموذج عمل مختلف. حيث إنها ترغب بشكل رئيسي في الاستفادة من التكاليف المنخفضة للعمالة في أفريقيا في إنتاج السلع المعدة للتصدير إلى الأسواق المتقدمة.
- في ليسوتو – وهي دولة أفريقيا ربما يسمع الكثيرون اسمها لأول مرة – يتم تصنيع منتجات شركات ملابس عالمية مثل " كوهلز" و" ليفي شتراوس آند كو" و"ريبوك" في مصانع صينية، قبل أن يتم شحنها على متن سفن حاويات متجهة إلى السوق الأمريكي.
بهدوء ودون ضجيج فارغ
- انتقال المصانع الصينية إلى أفريقيا هي خطوة في غاية الأهمية من الناحيتين الاقتصادية والاستراتيجية، وبما أن هذه الحركة من الواضح أنها ليست عشوائية بل تقف وراءها خطة مدروسة، فقد لا ينتظر الأفارقة الكثير قبل أن يجنوا ثمار هذه الإستراتيجية الجديدة، ولكن ربما النقطة الأخطر والأهم، هي أنهم سيشعرون دائمًا بالامتنان للصينيين.
- من بريطانيا العظمى في فجر الثورة الصناعية في القرن الـ18 إلى أمريكا في القرن الـ19، إلى اليابان وغيرها من البلدان الآسيوية في القرن الـ20، نجح التصنيع في إعادة هيكلة اقتصادات بأكملها، وتحسين مستويات المعيشة بالكثير من المجتمعات.
- الفكرة هي أن التصنيع خلافًا لقطاعي الزراعة والخدمات، يستوعب أعدادًا كبيرة من العمالة، كما أنه على المستوى الفردي يسمح لمزارعي الكفاف بتحويل أنفسهم إلى مستهلكين ومنتجين في الاقتصاد العالمي.
- التصنيع، هو الطريقة التي أعادت بها الصين تشكيل نفسها، لتتحول من بلد فقير متخلف أفقر من كينيا وليسوتو ونيجيريا إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم في أقل من 3 عقود.
- بهدوء ودون ضجيج فارغ المحتوى والمضمون توسع الصين نفوذها في واحدة من أكثر المناطق أهمية في العالم من الناحية الإستراتيجية، بالتصنيع وليس بأكياس من الدقيق والأرز تقذف بها الطائرات، وتجني نفوذًا تدرك أنها لن تحصل على مثله بتدخل عسكري متهور يحرجها سياسيًا ويستنزف مواردها.
- باختصار، العلاقة بين الصينيين والأفارقة اليوم، ربما أبلغ توصيف لها هو أنها (Win Win Situation) فلا أحد يعد خاسرا هنا كما كان يحدث سابقا.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}