في خطابه خلال حفل تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة عام 1949 قال "هاري ترومان" إن "أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في ظروف تقترب من البؤس. وللمرة الأولى في التاريخ تمتلك الإنسانية المعرفة والمهارة التي تمكنها من تخفيف معاناة هؤلاء الناس".
في الحقيقة استغرق الأمر وقتاً أطول بكثير مما كان يأمله "ترومان"، ورغم ذلك أحرز العالم مؤخراً تقدماً مذهلاً في إخراج مئات الملايين من البشر من الفقر المدقع.
ففي الفترة ما بين عامي 1990 و2010، انخفض عدد الفقراء كنسبة من مجموع السكان في البلدان النامية إلى 21% من 43%. بعبارة أخرى تراجع عددهم بنحو مليار شخص.
ما لا يدركه البعض هو أن الصين مسؤولة عن ثلاثة أرباع هذا الإنجاز، حيث إن الدولة الآسيوية استطاعت بفضل إصلاحاتها الاقتصادية وما نتج عنها من معدلات نمو مذهلة، سحب 680 مليوناً من مواطنيها من تحت خط الفقر خلال الفترة ما بين عامي 1981 و2010، ليتراجع معدل الفقر لديها من 84% في عام 1980 إلى 10% فقط في عام 2013.
وفي هذا التقرير نستعرض ظروف تحقيق الصين لهذا الإنجاز الكبير، وسرد بعض جوانب التجربة التي لا يمكن وصفها بالمثالية إلا أنها رغم ذلك تظل جديرة بأن تحاول دول أخرى محاكاتها.
تغير عقلية الإدارة السياسية
- بفضل الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها الزعيم الصيني "دينج شياو بينج" في أواخر السبعينيات، بدأت الصين تحولها المذهل من اقتصاد يقوم على المركزية والسيطرة إلى نظام اقتصادي حديث يقوم على أساس مبادئ السوق والتعاون الدولي.
- كانت المرحلة الأولى في هذه الإصلاحات، هي اعتماد "نظام المسؤولية الأسرية" في أوائل الثمانينيات، والذي منح الملايين من الفلاحين حرية تخطيط وتنظيم معظم إنتاجهم، بحيث لم يعد هناك من يأمرهم في تشكيلات شبه عسكرية بزراعة مساحات معينة بمحاصيل محددة كما كان الحال في الخطة التنموية الشهيرة "قفزة عظيمة إلى الأمام".
- أصبح بمقدور الأسر الصينية التحول إلى إنتاج محاصيل أكثر ربحية مثل الخضراوات والفاكهة والتبغ والقطن وبناء أحواض للأسماك أو تربية الحيوانات، وبيع جزء من إنتاجهم في السوق الحرة.
- نادراً ما يشار إلى حقيقة أن النمو المذهل الذي شهده قطاعا الصناعات التحويلية والخدمات في الصين خلال العقدين الأخيرين بالقرن العشرين كان يستند في الواقع إلى الإصلاحات التي شهدها القطاع الزراعي للبلاد.
- سبب نجاح هذا البرنامج الذي يعد واحداً من أكبر برامج التنمية الريفية في التاريخ لم يكن ناجماً عن الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية أو التعليم أو الإنفاق، وإنما كمن السر في تغير عقلية الإدارة السياسية والتي استوعبت كلمات "شياو بينج" حين قال "ليس مهماً ما إذا كان القط رماديا أو أسود ما دام أنه يمسك بالفئران".
- ببساطة أدركت الإدارة الصينية أن القطاع الزراعي لا يمكن أن يتطور إلا في حال امتلك المزراعون حرية اتخاذ قراراتهم الاقتصادية بأنفسهم.
- نتيجة لهذا التغير الجوهري في السياسات، شهدت إمدادات الغذاء في الصين تحسناً كبيراً وبدأت المناطق الريفية في التطور، وتم انتشال ملايين الفلاحين من براثن الفقر، وتضاعف متوسط الدخل الصافي السنوي للأسر الريفية خلال الفترة بين عامي 1987 و2003.
أساليب مكافحة الفقر
1- : القروض المدعومة للفقراء: بدأت الحكومة الصينية في عام 1986 خطة لتقديم قروض مدعومة للفقراء. حيث تقوم "مكاتب التخفيف من وطأة الفقر" في المقاطعات باختيار المشاريع التي يتعين دعمها من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية في المناطق الريفية.
- للأسف، هذه النوعية من القروض لم تجد دائماً طريقها إلى أيدي الفقراء، حيث إن الحكومات المحلية كان لديها سلطة اختيار المشاريع المستحقة لهذه القروض، لذلك كان يتم أحياناً اختيار المشاريع التي تديرها المقاطعات أو البلديات وليس الأسر الفردية.
2: برنامج الغذاء مقابل العمل: في الفترة ما بين عامي 1986 و1997 أنفقت الحكومة الصينية 33.6 مليار يوان في إطار برنامج "الغذاء مقابل العمل" والذي يعمل الفقراء بمقتضاه في مشاريع البنية التحتية المحلية مقابل حصولهم على الغذاء.
- رغم أهميته، كان لهذا البرنامج عيب خطير، وهو أنه لا يوجد هناك ما يضمن أن تكون خطة التنمية الجماعية في مصلحة الأسر الفقيرة، حيث كان بإمكان السلطات المحلية استخدام الأموال المخصصة ضمن البرنامج في مشاريع تسهم في رفع أسهمهم سياسياً ولا توفر في الواقع فوائد طويلة الأجل للفقراء.
3: الإصلاح الضريبي الزراعي: بعد أن تركت الحكومة المركزية المساحة للمزارعين في إدارة نشاطهم، تدهور الوضع المالي للسلطات المحلية بدرجة كبيرة. ففي السابق كان الدخل الزراعي يتقاسمه المجموع، وتحصل كذلك السلطات المحلية على نصيبها، ولكن بعد اعتماد "نظام المسؤولية الأسرية" أصبح الدخل يأتي إلى الأسر الفردية مباشرة.
- في سعيها لمعالجة هذا الخلل، بدأت السلطات المحلية في فرض أنواع مختلفة من الرسوم على المزارعين. وخلال منتصف التسعينيات وجد المزارعون أنفسهم محاصرين في الزاوية في ظل عدم قدرة أغلبهم على تحمل العبء المشترك للضريبة المفروضة من قبل الحكومة المركزية ورسوم السلطات المحلية.
- بعد أن ساورها القلق تجاه تزايد السخط لدى المزارعين، بدأت الصين في عام 2000 تطبيق برنامج الضرائب مقابل الرسوم، والذي هدف إلى استبدال الرسوم المختلفة بضريبة زراعية موحدة.
- في مارس/آذار 2004 قررت الحكومة إلغاء الضرائب الزراعية تماماً خلال 5 سنوات، قبل أن تقرر تسريع العملية وتقوم بإلغائها في يناير/كانون الثاني من عام 2005 في 25 مقاطعة.
4: الإعانات الحكومية: للمرة الأولى، قررت الحكومة الصينية في عام 2004 منح المزارعين مدفوعات مباشرة كإعانات لزراعة الحبوب عالية الجودة وفول الصويا ولشراء الآلات.
- كما قررت الحكومة الصينية أيضاً زيادة الأموال المخصصة لمشاريع البنية التحتية في المناطق الريفية مثل مرافق الري ومحطات توليد الكهرباء وغيرها.
- أخيراً، أظهرت تجربة الصين مدى فاعلية السياسات الموجهة نحو التنمية الزراعية والريفية في مواجهة الفقر. أفادت دراسة أجراها البنك الدولي، حول تجربة الصين في الحد من مشكلة الفقر بأن القطاع الزراعي كان مسؤولاً عن ثلاثة أرباع حجم التراجع الذي شهده عدد الفقراء في الصين خلال الفترة ما بين عامي 1981 و2001.
- تحمل التجربة الصينية دروساً مهمة في التنمية تستحق تسليط الضوء عليها، وذلك على الرغم من إدراكنا جيداً أنه لا يوجد هناك دواء شاف لمعضلة التنمية.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}