قبل ما يقرب من قرنين، صيغ مصطلح "المجتمع الصناعي" من قبل علماء الاجتماع لوصف الخصائص الاجتماعية في فرنسا وإنجلترا. وشملت هذه الخصائص، انتقال السكان من الريف إلى الحضر وتقسيم العمل والتطبيق المنهجي للعلوم في الإنتاج، مثل اختراع الآلات والمحركات البخارية.
ولكن في العقود القليلة الماضية، أدت التنمية الاقتصادية الجارية إلى التحول من الصناعة إلى عصر ما بعد الصناعة، حيث بدأت العديد من البلدان تتحول من اقتصاد الصناعات التحويلية إلى اقتصاد الخدمات الذي يتميز في المقام الأول بالنمو الملحوظ لصناعة الخدمات.
تحدث عملية التحول إلى اقتصاد الخدمات، في الكثير من الأماكن بجميع أنحاء العالم، ولكن تبقى هناك نماذج تشير بوضوح إلى ذلك التحول، مثل هونج كونج، التي تشكل صناعة الخدمات 95% من ناتجها لمحلي الإجمالي.
اختلافات رئيسية
- من الناحية النظرية، توجد هناك أبعاد مختلفة تمايز بين اقتصاد الخدمات والاقتصاد الصناعي. على سبيل المثال، غالباً ما تكون مدخلات اقتصاد الخدمات عبارة عن موارد غير ملموسة، مثل المعرفة والمهارات، في حين أن مدخلات الاقتصاد الصناعي هي موارد ملموسة من المواد الخام والسلع.
- الاختلاف الثاني، هو أن الخدمات نفسها كمخرجات غير ملموسة، في حين أن السلع المنتجة في ظل الاقتصاد الصناعي قابلة للاستعمال. أما الاختلاف الثالث، هو أن عمليتي إنتاج واستهلاك الخدمات لا يمكن فصلهما (أي أن الخدمة تستهلك مباشرة عند إنتاجها) وهناك تفاعل كبير بين العملاء ومقدمي الخدمات أثناء إنتاجها.
- على النقيض من ذلك، تنفصل مرحلة الإنتاج عن مرحلة الاستهلاك في الاقتصاد الصناعي، أي أن العملاء لا يمكنهم شراء السلعة إلا بعد إنتاجها، وفي نفس الوقت لا يوجد تفاوت في طبيعة السلعة لأن اقتصاد التصنيع يعتمد على التوحيد القياسي في خط الإنتاج.
من الزراعة إلى الخدمات .. الهند والقفز فوق مرحلة التصنيع
- عادة ما تتحول البلدان من الزراعة إلى الصناعة ومن ثم إلى الخدمات. ولكن الهند تخطت المرحلة الصناعية وتحولت مباشرة إلى الخدمات. وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن هذا التحول إنجاز اقتصادي يراه آخرون مجرد انعكاس لظروف تتميز بها الحالة الهندية.
- بدلاً من تطوير قاعدة صناعية كبيرة يمكنها استيعاب القوى العاملة التي تترك القطاع الزراعي، اتخذت الهند مسارا اقتصاديا غير شائع من خلال السماح لقطاع ثالث في الاقتصاد بامتصاص هذه الأعداد. وهذا النهج يراه عدد من الاقتصاديين على أنه ليس إنجازاً ولكنه يعد أمراً يدعو للقلق.
- ضخامة قطاع الخدمات في البلدان النامية تعتبر دليلاً على تطور القطاع غير المنظم أو غير الرسمي. ببساطة هذا القطاع بمثابة الملاذ الأخير والمأوى بالنسبة للملايين التي نزحت من الريف إلى المدن. ما لا يدركه البعض هو أنه في الهند يتم إدراج الأشخاص الذين يقومون بتلميع الأحذية وصغار تجار التجزئة والوسطاء تحت قطاع الخدمات، لأنه لا يوجد فئة أخرى مناسبة.
- ما يحدث في الاقتصادات التنموية يكون عادة كالتالي: عندما ترتفع المداخيل، فإن أول ما نفكر فيه هو الطعام والملبس وأحياناً السكن، وعندما ترتفع بنسبة أكبر يصبح هناك دخل متاح يمكننا من التركيز على المنتجات الصناعية مثل التلفاز والسيارات والدراجات النارية إلى جانب بعض الخدمات الأساسية مثل الخدمات المصرفية والرعاية الصحية والسياحة وما إلى ذلك.
- لهذا السبب من الطبيعي أن يشتغل أكثر من 60% من القوة العاملة في البلدن المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأستراليا واليابان وكندا في قطاع الخدمات، ولا تعتبر هذه النسبة مفاجأة على الإطلاق. لكن المثير للدهشة هو أن الكثير من البلدان النامية يعمل لديها نسبة مماثلة من القوى العاملة غير الزراعية بقطاع الخدمات.
- يعمل 61% من القوى العاملة غير الزراعية في الهند بقطاع الخدمات، وتصل النسبة إلى 69% في تنزانيا و88% في نيجيريا و70% في البرازيل و72% في غانا. وسبب غرابة هذه النسب، هو أن حجم الدخل المتاح لأغلبية مواطني هذه البلدان ليس كبيراً، ففي الهند على سبيل المثال لا يصنف سوى 2% من الهنود كمنتمين إلى الطبقة المتوسطة.
- ما يعنيه ذلك، هو أنه في البلدان النامية يتم تصنيف معظم القوى العاملة غير الزراعية كمشتغلين بقطاع الخدمات لأن هذا القطاع يعتبر بمثابة مراكز انتظار أو بمثابة خيار احتياطي للأشخاص الذين يفتقرون إلى وظيفة صناعية.
- على خطى الهند، بدأت بعض البلدان النامية تؤمن بأنه يمكنها تخطي مرحلة التصنيع، والتحول إلى بلدان متقدمة دون قاعدة صناعية قوية، وهو الاعتقاد الذي عززه تراجع حصة القطاع الصناعي من الاقتصاد لصالح القطاع الخدمي خلال العقود الأربعة الأخيرة.
أكثر من ثلثي أكبر اقتصاد في العالم
- في عام 1990 كان حجم القوى العاملة في قطاع الصناعات التحويلية بالولايات المتحدة أكبر مقارنة مع أي قطاع آخر في 36 ولاية من الولايات الأمريكية الـ50. ولكن الصورة تغيرت بشكل كبير اليوم، حيث تراجعت هيمنة قطاع التصنيع لتشمل 7 ولايات فقط.
- ماذا حدث؟ وقعت أكثر من حالة ركود، وارتفعت الواردات الأمريكية من الصين وغيرها من البلدان، وتوسع قطاع الرعاية الصحية بشكل مذهل. على مدى العقدين الماضيين انخفض حجم العمالة في قطاع الصناعات التحويلية من 18 مليون موظف في عام 1990 إلى ما يزيد قليلاً على 12 مليون وظيفة في عام 2014.
- في المقابل، تضاعف تقريباً حجم القوى العاملة في قطاع الرعاية الصحية والمساعدة الاجتماعية، ليرتفع من 9.1 مليون شخص في عام 1990 إلى ما يقرب من 18 مليون في عام 2014، وذلك وفقاً لبيانات مكتب إحصاءات العمل. وانقلب الحال وأصبح اليوم قطاعا الرعاية الصحية والمساعدة الاجتماعية هما أكبر ربيبي عمل في 34 ولاية أمريكية.
- لم يتحول الاقتصاد الأمريكي من التصنيع إلى الخدمات بطريقة مباشرة. فمع تراجع وظائف قطاع الصناعات التحويلية في منتصف التسعينيات، تولى قطاع التجزئة زمام الأمور لعدة سنوات.
- بحلول عام 2003، كان قطاع التجزئة أكبر موظف للعمالة في 21 ولاية أمريكية. واستمر الوضع على هذا الحال إلى أن تعرض القطاع لضغوط شديد بسبب الركود في عامي 2008 و2009، لتتحول 13 ولاية من سيطرة قطاع التجزئة إلى القطاع الخدمي.
- اليوم، يشكل قطاع الخدمات في الولايات المتحدة ما يقرب من 80% من الحجم الكلي للاقتصاد، في حين لا تزيد نسبة قطاع الصناعات التحويلية على 12%.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}