في عتمة الليل، يصل قارب إلى أحد الشواطئ البريطانية، ويقوم طاقمه بسرية وبسرعة بتفريغ حمولة الشاي من على متنه، في انتظار رجال يقومون بمساعدة خيولهم في حمل الشحنة، بينما تطوق نقاط تفتيش مسلحة المكان، تحسباً لأي زائر غير مرحب به.
ما سبق قد يكون صورة نمطية إلى حد ما، ولكن في القرن الثامن عشر كان للشاي أهمية كبيرة بالنسبة للكثير من البريطانيين الذين كانوا على استعداد للمخاطرة وتعريض أنفسهم للسجن فقط من أجل الحصول على كوب منه.
وفي الواقع كان هذا النوع من التهريب جزءًا حيوياً من الاقتصاد البريطاني لفترة اقتربت من 200 عام، وذلك بحسب ما ذكره التقرير الذي نشرته "بي بي سي".
وما أدى إلى ظهور هذا النشاط، هو التعريفات الجمركية والرسوم متزايدة الارتفاع، وهي عبارة عن الضرائب التي يتعين على التاجر دفعها لاستيراد الشاي بشكل قانوني.
وصلت رسوم الشاي في منتصف القرن التاسع عشر إلى 119% من سعر الشحنة نفسها، وهو ما يعني أن التاجر في حال نجح في تجنب دفع الضرائب، فإن تكلفة الشحنة ستنخفض بأكثر من النصف.
لذلك ليس من المستغرب أن العديد من التجار تحولوا إلى مهربين لديهم استعداد للمخاطرة، وسط احتمالات بزجهم إلى السجن أو تدمير سفنهم إذا تم إلقاء القبض عليهم.
الترابط بين التجارة الحرة والتهريب
عندما تكون ضرائب الاستيراد أو التعريفات الجمركية منخفضة، تصبح عوائد أنشطة التهريب ضئيلة جداً بالنسبة لحجم المخاطرة.
والعكس صحيح، عندما تقوم الحكومة برفع تكلفة استيراد السلع بشكل قانوني، فإنها تشجع المهربين الذين يمكنهم التحايل على السعر الرسمي.
ضرائب الشاي
كان الشاي واحداً من أهم السلع التي يجلبها التجار بشكل غير قانوني إلى بريطانيا في القرن الثامن عشر، فالجميع يريد كوباً من الشاي، ولكنهم لا يستطيعون تحمل تكلفته بالسعر الرسمي.
في الفترة التي سبقت فرض ضريبة الدخل، شكلت رسوم الشاي 10% من إيرادات الحكومة البريطانية، وهو ما يكفي لتغطية كامل نفقات البحرية الملكية، ولكن مع ارتفاع التعريفة الجمركية إلى 119%، ظهرت فرصة ذهبية أمام المهربين.
"إذا كانت لديك سلع يريدها الناس وقمت بفرض تعريفات جمركية مرتفعة عليها، فإنك وفرت من دون قصد للمهربين فرصة عمل". هذا ما قالته المؤرخة بجامعة "إكستر" البريطانية "هيلين دو".
في أواخر القرن السابع عشر، كان يتم تهريب أكثر من 3 آلاف طن من الشاي إلى بريطانيا سنوياً، في حين أن إجمالي ما كان يتم استيراده بشكل قانوني لم يتجاوز ألفي طن.
كانت هناك بعض المناطق في البلاد التي تعيش بشكل كامل على أنشطة التهريب، وكان هذا النشاط عبارة عن شبكة تشمل أصحاب الأراضي الذين يقومون بتمويل العملية، بالإضافة إلى الصيادين الذين كانوا يعملون على تشغيل القوارب.
التجار السويديون
لم يكن البريطانيون فقط هم من يطورون مذاق الشاي، حيث إن شعبية ذلك المشروب في السويد مكنتها أيضاً من لعب دور مهم في أنشطة تهريب الشاي في القرن الثامن عشر إلى بريطانيا.
كان تجار شركة الهند الشرقية السويدية قادرين على شراء أفضل أنواع الشاي الصيني، لأنهم على عكس الدول الأوروبية كانوا على استعداد لدفع الفضة بدلاً من السعي إلى المقايضة والتجارة مع الصينيين.
من بين هؤلاء التجار، كان هناك عدد قليل من الاسكتلنديين واللاجئين السياسيين الذين فروا إلى السويد بعد فشل انتفاضة جاكوبيت عام 1745، والذين لم يكن لديهم بالطبع مشكلة كبيرة مع تجنب دفع الضرائب إلى الحكومة البريطانية.
كان لهذه التجارة شعبية كبيرة جداً، للحد الذي دفع الصحف في اسكتلندا وشمال إنجلترا إلى نشر إعلانات دعائية للشاي المهرب، وأطلقوا عليه "جوتنبرج تيس".
كانت شركة الهند الشرقية البريطانية تحتكر واردات الشاي، حيث إنه إذا أراد تاجر من مدينة إدنبرة الاسكتلندية شراءه، فكان عليه الذهاب إلى لندن وشحنه من هناك، ولكن بعد أن يدفع الثمن مقدماً.
لكن هذا التاجر أمامه خيار آخر، وهو شراء شحنة الشاي من المهربين بنصف الثمن – من دون ضرائب – وتسليمها له في المكان الذي يحدده، بالإضافة إلى فترة سماح تصل إلى أربعة أشهر قبل أن يدفع ثمن الشحنة!
كان من بين المشاركين في هذه التجارة رجل يدعى "جون نيسبت" الذي أصبح غنياً إلى الحد الذي مكنه من أن يطلب من المهندس المعماري الشهير "جون آدمز" تصميم قصره المائي في إيموث على الحدود الاسكتلندية.
وردت أكثر من مرة معلومات إلى موظفي الجمارك عن سفن "نيسبت"، ولكنها دائماً ما تأتي بعد فوات الأوان، حيث يكون قد تم تهريب البضائع بالفعل إلى الشاطئ.
إذا حدث وتمكنت السلطات من ضبط الشحنة يتم أحياناً التفاوض من جانب المهرب على إعادة شرائها من الحكومة.
كيف قضت التجارة الحرة على التهريب؟
بحلول عام 1784 أدركت الحكومة البريطانية أن التعريفات الجمركية المرتفعة تضرها أكثر مما تنفعها، لذلك قررت خفض رسوم استيراد الشاي إلى 12.5% فقط، وهو ما جعله في متناول معظم الناس.
هذا التغير أدى إلى تحول تركيز المهربين إلى نقل البشر والنبيذ، ولكن بعد عام 1815 ومع ازدهار البحرية الملكية وسيطرتها شبه الكاملة على البحر، باتت أيام ذلك النشاط معدودة.
في نهاية المطاف فشل العديد من المهربين، حيث لم يتمكن النشاط من توليد الأرباح الكافية لتعويضهم في حال خسارتهم للحمولة أو السفن إذا تم ضبطها من قبل الجمارك.
بعبارة أخرى، الاقتصاد هو الذي نجح أخيراً في إنهاء حقبة التهريب، وقد أدى اعتماد بريطانيا لسياسة التجارة الحرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى تخفيض رسوم الاستيراد بشكل كبير، وهو ما جعل نشاط التهريب غير قابل للاستمرار.
أخيراً، بفضل هذا التحول في السياسة، يمكن للجميع الآن الجلوس والاسترخاء والتمتع بكوب لطيف من الشاي دون الخوف من إمكانية الذهاب إلى السجن.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}