- عندما نشرت مجلة نيويورك تايمز مقالًا بعنوان: "المسؤولية الاجتماعية للشركات هي زيادة أرباحها"، بقلم الخبير الاقتصادي ميلتون فريدمان، كان الأخير حينها لم يحظَ بعدُ بجائزة نوبل في الاقتصاد، ولم يتبوأ مكانةً بين صفوة الاقتصاديين الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين.
- ومع ذلك، فقد أثارت أفكاره، التي لاقت رواجًا متزايدًا في الأوساط الليبرالية، جدلًا واسعًا، إذ بدت رؤيته لدور الشركات في ذلك العصر متسمة بالتطرف.
عقود من الرأسمالية.. وأزمات متفاقمة
- على امتداد العقود المنصرمة، ترسخ "مبدأ فريدمان" باعتباره النهج المهيمن في التعاطي مع الشركات، لا سيما عقب التراجع الذي شهدته أرباح الشركات وتفاقم العجز التجاري الأمريكي في سبعينيات القرن الماضي.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- بيد أن التداعيات السلبية لهذا النهج بدأت تتضح بجلاء مع تفاقم التفاوت في توزيع الثروة والدخل، وجمود الأجور المتوسطة، الأمر الذي أفضى إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، ولا سيما بعد الأزمة المالية التي عصفت بالعالم في عام 2008 وجائحة كورونا التي تلتها.
وقد كشفت استطلاعات رأي أجرتها مؤسسة "جاست كابيتال" أن المواطنين الأمريكيين باتوا يتطلعون إلى أن تضطلع الشركات بدور أكبر في تحقيق موازنة دقيقة بين مساعيها لتعزيز الأرباح وخدمة المجتمع.
كما أن ثمة عددًا متزايدًا من المديرين التنفيذيين وصناع القرار أضحوا يؤيدون التحول نحو تبني نموذج "رأسمالية أصحاب المصلحة"، الذي يولي اهتمامًا بالغًا بالآثار الاجتماعية والبيئية المترتبة على الأنشطة الاقتصادية.
إعادة التفكير في دور الشركات
- تدعو ريبيكا هندرسون، الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال، في مؤلفها "إعادة تصور الرأسمالية في عالم مشتعل"، إلى ضرورة تغيير القواعد الاقتصادية السائدة بهدف ضمان تحقيق توازن مستدام بين الأسواق الحرة والمجتمعات.
- وهي ترى أن مفهوم أولوية المساهمين قد دفع الشركات إلى التعامل مع رأس المال الاجتماعي، المتمثل في أجور العمال، ورأس المال الطبيعي، المتمثل في الموارد البيئية، على أنهما من الموارد المجانية، وهو الأمر الذي فاقم من حدة الأزمات الاجتماعية والبيئية.
- وهنا تدعو هندرسون إلى إعادة إحداث توازن دقيق بين الأسواق الحرة والحكومات الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني، مؤكدةً على أن الرأسمالية يجب أن تستهدف في المقام الأول بناء مجتمع مزدهر، وليس مجرد تعظيم قيمة المساهمين وحسب.
موازنة الأهداف قصيرة وطويلة المدى
- طرح ميلتون فريدمان قبل نحو نصف قرن من الزمان، نظرية مفادها أن الأولوية القصوى للشركات يجب أن تنصب على تعظيم الأرباح، معتقدًا بأن "اليد الخفية" للسوق كفيلة بضمان تحقيق منافع أوسع للمجتمع ككل.
- غير أن الواقع الاقتصادي المعاصر يثير تساؤلات جوهرية حول مدى استدامة هذا النموذج، لا سيما في ظل تفاقم أوجه التفاوت الاقتصادي، وتصاعد الضغوط قصيرة الأجل التي تواجهها الشركات.
- رأى فريدمان أن تركيز الشركات على تحقيق المكاسب المالية من شأنه أن يؤدي بصورة تلقائية إلى ضخ استثمارات تُعزز النمو، وتوفر فرص عمل جديدة، وترتقي بجودة المنتجات والخدمات المقدمة للمستهلكين.
- بيد أن الاقتصادي جوزيف ستيجليتز قد أشار إلى أن هذا الطرح يفتقر إلى أسس نظرية اقتصادية راسخة.
- ففي عام 1980، نشر ستيجليتز وزميله ساندي جروسمان ورقة بحثية أكدت أن توازن السوق، على النحو الذي تصوره فريدمان، قد يكون ممكنًا من الناحية النظرية، ولكنه غير قابل للتحقق على أرض الواقع، الأمر الذي يقوض الأسس التي تقوم عليها هذه النظرية.
التحولات الاقتصادية وتأثيرها على الشركات
- شهدت العقود المنصرمة تطبيقًا عمليًا لمبدأ فريدمان من خلال تبني سياسات ترمي إلى خفض الضرائب، وإلغاء القيود التنظيمية المفروضة على الشركات، وتخفيف قوانين مكافحة الاحتكار، الأمر الذي أدى إلى بروز فئة من المستثمرين "الناشطين" الذين يسعون جاهدين إلى تعظيم الأرباح السريعة على حساب النمو الاقتصادي طويل الأمد.
- دفع هؤلاء المستثمرون الشركات نحو تبني سياسات "ودية للمساهمين"، من قبيل زيادة التوزيعات النقدية وعمليات إعادة شراء الأسهم، وهو ما أفضى إلى ارتفاع حاد في أجور الرؤساء التنفيذيين مقارنة بالموظفين العاديين، إذ ارتفعت هذه النسبة من 20:1 في عام 1965 لتصل إلى 295:1 في عام 2018.
دعوات لتغيير مسار الرأسمالية
- بدأت أصوات نافذة تتعالى مطالبةً بتبني نموذج رأسمالي جديد أكثر استدامة إزاء هذه التحديات المتفاقمة.
- وكان من بين هؤلاء الأصوات لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك، الذي أعلن في رسالته السنوية في عام 2018 أن شركته لن تتعامل إلا مع الشركات التي تتبنى استراتيجيات طويلة الأجل ذات أثر اجتماعي إيجابي.
- وأكد فينك أن الشركات التي تفتقر إلى "هدف واضح ومحدد" ستفقد مشروعيتها في السوق مع مرور الوقت.
رأسمالية أصحاب المصلحة: الحاجة إلى تغيير هيكلي
- لا يقتصر الحديث عن رأسمالية أصحاب المصلحة على مجرد تغيير في الخطاب السائد، بل يستلزم إعادة تفكير جذرية في كيفية قياس القيمة الاقتصادية المتولدة.
- قد يُنسب إلى فريدمان فضل كونه أول من طرح مبدأ تعظيم أرباح المساهمين، غير أن تحويل هذا المبدأ إلى واقع عملي ملموس يعود في جزء كبير منه إلى مايكل سي. جينسن، الذي قدم في ورقة أكاديمية في عام 1976 أدوات عملية من شأنها أن تجعل المديرين التنفيذيين يتصرفون وكأنهم ملاك حقيقيون للشركات، وذلك من خلال منحهم خيارات أسهم ومكافآت مالية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأداء السوق.
- بيد أن هذه السياسات أدت في نهاية المطاف إلى هيمنة التفكير قصير الأجل، الأمر الذي عزز من الحاجة الملحة إلى إعادة تقييم شاملة للنموذج الرأسمالي الراهن.
الشركات بين مسؤولياتها التقليدية وتوقعات الجمهور
- لطالما ساد الاعتقاد الراسخ، وفقًا للنظرية الاقتصادية التي وضعها ميلتون فريدمان، بأن أي قرار إداري تتخذه الشركة ولا يستهدف في المقام الأول تعظيم الأرباح المتوقعة يُعد بمثابة "ضريبة" غير مبررة تُفرض على المساهمين.
- بيد أن هذه الفكرة السائدة تغفل حقيقة دامغة مفادها أن الاستثمار الحقيقي في رفاهية الموظفين والمجتمعات المحلية التي تعمل فيها الشركات من شأنه أن يعزز الاستقرار والإنتاجية على المدى الطويل.
- علاوة على ذلك، فقد أثبتت التجربة العملية أن الشركات التي تبنت استراتيجيات عمل محورية تركز في المقام الأول على تلبية مصالح أصحاب المصلحة المتنوعين قد تفوقت على مثيلاتها من الشركات الأخرى التي تتبنى نهجًا تقليديًا بنسبة تصل إلى 30% خلال السنوات الأربع الماضية، وهو الأمر الذي يعكس بجلاء جدوى وفعالية هذا النهج المستدام من منظور مالي بحت أيضًا.
نحو اقتصاد أكثر قوة، ومجتمع أكثر عدالة
- في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، بات من الجليّ أن إعادة النظر في مبدأ فريدمان أصبحت ضرورة ملحة وحتمية.
- فالرأسمالية المستدامة لا تمثل مجرد فكرة نظرية مجردة، بل هي مسار لا مناص منه لضمان تحقيق نمو اقتصادي شامل وعادل يعود بالنفع على الجميع.
- ومن أجل تحقيق هذا المسعى النبيل، لا بد من إحداث تغييرات جوهرية في الطريقة التي تُدار بها الشركات، على نحو يكفل لها الموازنة الدقيقة بين تحقيق الأرباح المشروعة وتلبية الاحتياجات المتزايدة للمجتمع على المدى الطويل.
وهذا في نهاية المطاف يعني اقتصادًا وطنيًا أكثر قوة وصلابة، ووطنًا ومجتمعًا أكثر ازدهارًا وعدالة.
المصدر: جاست كابيتال
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: