تطرّق الكاتب الاقتصادي الألماني "جوزيف شومبيتر" في كتابه "الرأسمالية، الاشتراكية والديمقراطية" إلى مفهوم "الإبداع التدميري "Creative Destruction، حيث يشير إلى التغيير الثوري الذي يقضي على الصناعات القديمة ويفسح المجال لأخرى جديدة.
هذا المفهوم يمكن تطبيقه على قطاع السيارات الألماني، الذي يواجه اليوم تحديات كبيرة، نتيجة الابتكارات التكنولوجية مثل السيارات الكهربائية واللوائح البيئية الصارمة، إضافة إلى منافسة الشركات الصينية، ما أدى إلى اهتزاز استقرار هذا القطاع.
وعلى مدار عقود، اعتمد الاقتصاد الألماني بشكل كبير على قطاع السيارات الذي يشكل ما بين 7 و8% من الناتج الاقتصادي السنوي للبلاد البالغة قيمته 5.2 تريليون دولار في عام 2023، وهو ما يفسر اهتمام برلين بتقديم كل أشكال الدعم الحكومي لهذا القطاع الحيوي.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
تعثر بسبب تراجع الطلب الصيني
وقال وزير الاقتصاد روبرت هابيك، أمس الإثنين، إن معظم مشكلات صناعة السيارات الألمانية ترجع إلى ضعف الطلب من الصين، ولا توجد أي علامات على تغير هذا في الأمد القريب، بينما تدرس برلين خيارات لدعم صناعة السيارات.
وعقب اجتماعه مع مصنعي السيارات لمناقشة التحديات الرئيسية التي تواجه القطاع في ظل زيادة التوجه نحو السيارات الكهربائية، قال هابيك: "الاقتصاد العالمي في مرحلة ضعف، وهذه المرحلة من الضعف معقدة أيضاً بالنسبة للاقتصاد الألماني".
وقبل عدة أيام من الاجتماع طرح الوزير الألماني "هابيك" فكرة تقديم دعم إضافي لصانعي السيارات في البلاد، قائلاً إنه سيناقش سبل معالجة التحديات التي يواجهها القطاع المتعثر خلال مقابلته مع كبار مصنعي السيارات ببلاده.
وأضاف حينها خلال زيارة له لمصنع فولكس فاجن للسيارات الكهربائية في شمال غرب ألمانيا، أنه في حين يتعين على مصنعي السيارات تحمل بعض اللوم عن مشكلاتهم الحالية، فإنه يشعر "بالالتزام بفعل شيء ما لإعادة تلك الشركات إلى العمل مرة أخرى".
وتكافح صناعة السيارات في أوروبا للتعامل مع انخفاض الطلب على السيارات الكهربائية، بعد أن قلصت الحكومات، بما في ذلك ألمانيا، الحوافز المالية لهذا القطاع، ما رفع أسعار السيارات بشكل ملحوظ في وقت تواجه ضغوطاً قوية من منافسيها الصينيين.
وقالت رابطة مصنعي السيارات الأوروبية، في وقت سابق من الشهر، إن تسليمات السيارات الكهربائية في ألمانيا -أكبر سوق للسيارات في المنطقة- انخفضت بنسبة 69% في أغسطس، ما أدى إلى انخفاض بنسبة 36% في جميع أنحاء أوروبا.
ومثّلت مبيعات الشركات الصينية من السيارات الكهربائية نحو 58% من المبيعات حول العالم في عام 2023، بحسب بيانات وكالة الطاقة الدولية.
أزمة شركات السيارات الألمانية
جاءت أحدث علامة على التحديات الشديدة التي تواجه شركات صناعة السيارات الألمانية قبل نحو أسبوعين، عندما حذرت فولكس فاجن من أنها قد تغلق مصانعها في ألمانيا لأول مرة في تاريخها، في محاولة لخفض التكاليف.
وجاء هذا التحذير بعدما خسرت الشركة ما يقرب من ثلث قيمتها السوقية على مدى السنوات الخمس الماضية، ما يجعلها الأسوأ أداء بين شركات صناعة السيارات الأوروبية الكبرى وليست ألمانيا فقط.
وفي الصين، أكبر سوق لها، شهدت عملاق السيارات الألمانية انخفاض تسليماتها بأكثر من الربع مقارنة بثلاث سنوات مضت، إذ سلمت الشركة نحو 1.34 مليون سيارة في النصف الأول من هذا العام.
أفضل عشر موديلات سيارات مبيعاً في ألمانيا في عام 2023 |
||
الشركة |
الموديل |
عدد السيارات المباعة |
فولكس فاجن |
جولف |
81117 |
فولكس فاجن |
تي-روك |
68678 |
فولكس فاجن |
تيجوان |
63958 |
أوبل |
كورسا |
53669 |
فولكس فاجن |
باسات |
47494 |
فيات |
500 |
47166 |
ميني |
ميني |
45938 |
تسلا |
واي |
45818 |
مرسيدس |
سي-كلاس |
44257 |
سكودا |
أوكتافيا |
41819 |
وفي العام الماضي، فقدت الشركة صدارتها كأكبر علامة تجارية للسيارات مبيعاً في الصين لصالح بي واي دي، حيث تخلت عن اللقب الذي احتفظت به منذ عام 2000 على الأقل.
الأمر لم يقتصر على فولكس فاجن فقط، بل انضمت شركات ألمانية أخرى مثل بي إم دبليو، ومرسيدس بنز التي واجهت انخفاضاً في الأرباح والمبيعات، مع الحاجة الماسة للتكيف مع التطورات الحديثة في صناعة السيارات.
وفي أغسطس الماضي انخفضت أرباح شركة "بي إم دبليو" في الربع الثاني بسبب تراجع المبيعات في سوقها الرئيسي في الصين.
وانخفض صافي دخل المجموعة في الربع الثاني بنسبة 9% إلى 2.9 مليار دولار أمريكي، كما انخفضت إيرادات المجموعة والأرباح قبل الضرائب، والأرباح قبل الفوائد والضرائب.
وبلغ هامش الربح قبل الفوائد والضرائب والإهلاك 8.4% مقارنة بهامش بلغ 9.2% في الفترة نفسها من العام الماضي، وهي نسبة أقل من توقعات المحللين.
وفي عام 2022، سجلت مبيعات سيارات الركاب في ألمانيا تراجعاً قياسياً بعدما انخفضت بنسبة 4.6% مقارنة بعام 2021، وبلغ عدد السيارات المبيعة نحو 2.6 مليون سيارة فقط، وهو أقل مبيعات منذ 2005.
ورغم تحسن المبيعات هناك في 2023 حيث بلغت 2.8 مليون سيارة، فإن الرقم لا يزال بعيداً عن مستويات المبيعات القياسية في عام 2009 حينما بلغت 3.8 مليون سيارة.
التحول نحو السيارات الكهربائية
وبالإضافة إلى تراجع مبيعات الشركات الألمانية في السوق الصينية، يواجه مصنعو السيارات في أكبر اقتصاد بالقارة الأوروبية ضغطاً كبيراً للامتثال لمعايير الانبعاثات الكربونية الأوروبية، التي أصبحت أكثر صرامة.
وقدّر الخبراء أن تحقيق التحول الكامل نحو السيارات الكهربائية سيكلف الشركات الألمانية استثمارات تصل إلى 60 مليار يورو حتى عام 2030.
وباعتباره أحد أشهر خبراء الاقتصاد في ألمانيا، يزعم هانز فيرنر سين، الرئيس السابق لمعهد إيفو ومقره ميونيخ، أن هناك عدة سياسات أحدثت اضطراباً جذرياً في ظروف السوق في فترة زمنية قصيرة نسبياً.
وأضاف أن تلك السياسات تشمل الصفقة الخضراء الأوروبية، وحظر الاتحاد الأوروبي محركات الاحتراق بدءاً من عام 2035، ومعايير الانبعاثات الصارمة بشكل متزايد.
وأفاد بأن هذا الاتجاه أجبر هذا الصناعة على تحول مسارها بشكل متسارع، وترك الشركات التي تفشل في التكيف بسرعة كافية تواجه مصيراً مجهولاً.
وحذر من أن مواءمة الاقتصادات الأوروبية، بما في ذلك شركات صناعة السيارات، مع أهداف المناخ الشاملة قد يكون "حسن النية"، لكنه سيضع الفأس على ازدهار القارة الأوروبية.
وتمثل السيارات الكهربائية والهجينة نحو 26% من مبيعات السيارات الجديدة في ألمانيا، لكن هذه النسبة لا تزال بعيدة عن الطموحات البيئية.
وعلاوة على ذلك، وضعت فضيحة انبعاثات الديزل لشركة فولكس فاجن "ديزل جيت" الصناعة بأكملها في موقف دفاعي، حيث أدى ذلك إلى فقدان الثقة في الشركات الألمانية وتكبيدها غرامات ضخمة تجاوزت 30 مليار دولار.
تحديات إضافية
تواجه الشركات الألمانية منافسة قوية من الشركات الصينية والأمريكية التي تركز على تصنيع السيارات الكهربائية.
على سبيل المثال، شركة تسلا التي افتتحت مصنعاً كبيراً بالقرب من برلين، قد زادت من الضغط على الشركات المحلية، حيث ارتفعت مبيعات تسلا في ألمانيا بنسبة 40% في عام 2022، ما جعلها منافساً رئيسياً في سوق السيارات الكهربائية.
في الوقت ذاته، تقدم الشركات الصينية سيارات كهربائية بأسعار تنافسية، ما يشكل تحدياً إضافياً للشركات الألمانية المعروفة بتركيزها على السيارات الفاخرة.
إضافة إلى ذلك فإن شركات السيارات الألمانية كانت بطيئة في التحول نحو الرقمنة مقارنة بمنافسيها العالميين.
وتواجه شركات مثل بي إم دبليو ومرسيدس بنز صعوبات في مواكبة التطورات في الذكاء الاصطناعي والقيادة الذاتية، مقابل استثمارات ضخمة من قبل تسلا وبي واي دي في هذا المجال.
السيارات الأوروبية تواجه أزمة مماثلة
وضع الشركات الأوروبية المصنعة للسيارات ليس أفضل كثيراً، حيث تشير البيانات إلى أن واحداً من كل ثلاثة مصانع أوروبية لشركات صناعة السيارات العملاقة مثل بي إم دبليو ومرسيدس وستيلانتس ورينو وفولكس فاجن غير مستغلة بالكامل، بحسب بلومبرج إنتليجنس.
بل إن الأمر يزداد قتامة في بعض مصانع تلك الشركات، إذ يتم تصنيع أقل من نصف المركبات التي يمكن إنتاجها وفقاً للقدرة الإنتاجية لتلك المصانع.
على سبيل المثال، فإن مصنع ستيلانتيس في ميرافوري بإيطاليا، حيث يتم تصنيع فيات 500 إيه الكهربائية بالكامل، يواجه صعوبة بالغة إذ انخفض الإنتاج هناك بأكثر من 60% في النصف الأول من عام 2024.
في حين يواجه مصنع شركة صناعة السيارات الفاخرة أودي في بلجيكا، الذي ينتج طراز كيو8 إيه-تورن الفاخر، شبح الإغلاق.
وتتزايد الضغوط على شركات صناعة السيارات الأوروبية بشكل كبير في ظل التحديات القادمة من السوق الصينية.
ورغم الرسوم الجمركية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على السيارات الكهربائية المصنعة في الصين، فإن الشركات المصنعة من القوة الآسيوية عازمة على ترسيخ موطئ قدم لها في السوق الأوروبية.
ومن أجل التحايل على الرسوم الجمركية الأعلى على سياراتها، تخطط شركات تصنيع مثل جيلي، وشيري، وجريت وول موتور، وبي واي دي لإنتاج السيارات الكهربائية في مصانعها الخاصة في أوروبا.
المصادر: أرقام- أكسفورد أكاديمي- رويترز- بيزنس تايمز- ستاتيستا- دويتشه فيله- البنك الدولي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}