تم تأسيس العديد من الكتابات والمؤلفات على تكرار العديد من الأحداث عبر التاريخ، أو تشابه الكثير مما حدث خلال مسيرة البشرية من بعض النواحي، وظهرت بناء على ذلك مؤلفات "ابن خلدون" و"هيغل" وغيرهما، ممن يرون أن التاريخ بمثابة "معمل" للعلوم الإنسانية لأن به العديد من العبر التي تتكرر باستمرار.
وفي سوق الأسهم، يعتمد العديد من المتداولين، خصوصا المضاربين، على التحليل الفني قصير المدى وأدوات قياس تكرار الأنماط، مستخدمين أدوات مثل الشموع اليابانية لفهم سلوكيات الأسعار وتوقع اتجاهاتها المستقبلية.
أشهر الأنماط وماذا تقول الإحصائيات
تستند هذه الاستراتيجيات إلى فكرة أساسية وهي تكرار التاريخ إذ يعتقد المتداولون أن مستويات الدعم والمقاومة، وهي نقاط محورية على الرسم البياني للسعر، تمثل مستويات نفسية للمستثمرين، وأن سلوكيات السوق ستتكرر عند الوصول إلى هذه المستويات.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
لكن الواقع يُظهر عكس ذلك، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 8-10% فقط من المتداولين في سوق الأسهم يحققون أرباحًا، بينما تنخفض هذه النسبة بشكل كبير إلى 1-2% في المضاربة ولا سيما على المراهنين على تكرار التاريخ لنفسه بشكل حرفي وضيق.
يُؤكد ذلك عدم صحة الرهان المطلق على تكرار التاريخ، وأن هذه الاستراتيجيات تُسبب خسائر أكثر من المكاسب، وفي بعض الأحيان قد تنجح المضاربات، لكن لا يرجع ذلك إلى تكرار التاريخ، بل إلى وجود تيار قوي مدعوم إعلاميًا وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
يُروج هذا التيار لمستوى دعم معين يُتوقع أن تنتعش الأسعار عنده، مما يدفع العديد للشراء في هذا المستوى، لكن هذا الشراء لا ينبع من تحليل سليم، بل من التوقعات المُروجة التي قد تُحقق ذاتها بفعل الاندفاع الجماعي.
ومن بين أشهر الأنماط التي يرى المتداولون أنها تتكرر في السوق بناء على الرسومات البيانية:
نمط الرأس والكتفين: ويعني وجود قمة سعرية عالية بين قمتين سعريتين أقل منها ويكادان يقتربان من المستوى ذاته.
نمط المثلث المتماثل في سوق الأسهم: ويعني وجود قمم سعرية وقيعان سعرية شبه متماثلة من حيث القيمة في السوق.
نمط القاع المزدوج في سوق الأسهم: وهو يكاد يكون الصورة المقلوبة لنمط الرأس والكتفين، حيث تظهر نقاط مقاومة سعرية (للهبوط) أدنى في المستوى بين نقطتين مقاومة سعرية أدنى منها.
بيل أكمان
ومن بين أشهر التجارب في مجال المضاربة اعتمادًا على نظرية تكرار الأنماط ما قام به المستثمر الشهير "بيل أكمان" مع شركة "هيربا لايف"، حيث اشتهر أكمان، المستثمر ومدير صندوق التحوط بيرشينج سكوير كابيتال مانجمنت، بمراهناته القصيرة الجريئة ضدّ شركات اعتبرها مُبالغًا في تقييمها أو مُمارساتها غير أخلاقية.
وفي عام 2012، راهن أكمان بمبلغ مليار دولار على انخفاض سعر سهم شركة هيربالايف، وهي شركة تبيع منتجات غذائية و مكملات غذائية من خلال نموذج التسويق متعدد المستويات.
ومن بين عوامل عدة اعتمد عليها "أكمان" في رهانه على انخفاض سعر الشركة كان صعود سهم الشركة وهبوطه بشكل مثير للشكوك ويشكل في حد ذاته نمطا متكررا يمكن بالنسبة له الرهان عليه، فضلًا عن شكوكه الشخصية في تورط الشركة في ممارسة غير أخلاقية من شأن تكشفها أن يهوي بسعر سهم الشركة.
شنّ أكمان حملة شرسة ضدّ هيربالايف، مستخدمًا وسائل الإعلام والمنظمين والمستثمرين لممارسة الضغط على الشركة، لكي يحاول إثبات اتهاماته ودفع السهم للتراجع مثلما حدث سابقًا،، وفي المقابل دافعت هيربالايف عن نموذج أعمالها وسجلها، وفتحت تحقيقًا مع أكمان بتهمة التلاعب بالسوق.
تحولت مراهنة أكمان إلى معركة طويلة ومكلفة. انخفض سعر سهم هيربالايف بشكل مبدئي بعد رهان أكمان، لكن سرعان ما تعافى واستمرّ في الارتفاع، وفي عام 2016، أعلن أكمان عن التخلي عن رهانه على هيربالايف، متكبدًا خسائر تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
كانت تجربة أكمان مع هيربالايف درسًا قاسيًا في مخاطر المراهنات القصيرة وصعوبة التنبؤ بحركة سوق الأسهم، وأن الرهان على تكرار الأنماط، بل وحتى محاولة إجبار السوق على تكرار تحركاته السابقة أمر شديد الصعوبة، وشديد التكلفة حال الفشل به.
فشل آخر
وعلى الرغم من هذا الدرس المُكلف للغاية فإن "أكمان" عاد مجددًا إلى العمل وفقًا لمنطق تكرار الأنماط في استثماره في شركة "تارجت" ورهانه على ارتفاع سعر أسهمها وذلك في عام 2019، إلا أنه حقق خسائر 4.6 مليار دولار بسبب عدم تحسبه لنمو التجارة الإلكترونية وأيضًا لتأثير فيروس كورونا الذي انتشر في 2020 على شركة تارجت والتي تعمل بالأساس في تجارة التجزئة.
والشاهد أن "أكمان" حقق نجاحات كبيرة في سنوات عمله الطويلة في الأسهم، ولكنها جميعًا كانت مرتبطة بتحركات مبنية على المعلومات، بينما حقق خسارات كبيرة بسبب "التكهنات" ومنها تكهنه في أكتوبر 2023 ببدء الاقتصاد الأمريكي في التباطؤ بسبب آثار رفع الفائدة، مثلما حدث في دورات سابقة، وهو ما تبين خطؤه بعد أكثر من 8 أشهر على هذا التكهن.
وفي سوق الأسهم الأمريكي، يميل أكثر من نصف المتداولين إلى شراء الأسهم عند وصولها إلى أدنى مستوى لها خلال العام، وبيعها عند بلوغها أعلى مستوى لها خلال نفس العام، ويعتمد هذا الأسلوب على تحليل مستويات الأسعار فقط، دون دراسة شاملة للسوق. ونتيجة لذلك، يفشل 90٪ من مستخدميه في تحقيق الأرباح.
وعلى الرغم من فشله، يتمسك العديد من المتداولين بهذا الأسلوب، معتقدين أنهم لم يحالفهم الحظ فقط، وأن الأسلوب ناجح مع الآخرين، لكن الحقيقة أن مئات الأسهم لا تتبع هذا النمط البياني للصعود والهبوط بنسب محددة.
لذلك، فإن الاعتماد على "معنويات السوق" فقط، دون تحليل دقيق، لا يؤدي إلى النجاح في التداول، والاعتقاد في التكرار بشكل مستمر يعني الاعتقاد عمليًا بأن "العقل الجمعي" للسوق يعمل دائما بنفس الطريقة وهو أمر مناف للصواب تمامًا.
تشابه الأنماط والأسهم المتقلبة
يُحذر "بيل أونيل"، الشريك في مؤسسة "لوجيك أدفيسور" للاستشارات الاستثمارية، من ظاهرة شائعة بين المستثمرين، وهي الرهان على سلع أو أسهم متقلبة، ظنًا منهم أن ذلك يُشير إلى إمكانية تحقيق أرباح كبيرة بسبب وجود أنماط واضحة يمكنهم استنتاجها صعودًا وهبوطًا بما يمكنهم من استنتاج الاتجاه السعري للسهم سواء صعودًا والشراء أو هبوطًا والبيع.
ولذلك ينصح "أونيل" بتجنب الاستثمار في "الأسهم الهشة" أو المتقلبة، وهي تلك التي شهدت تحركات سعرية تتجاوز 40% صعودًا وهبوطًا خلال فترة قصيرة دون اتجاه محدد. ففي هذه الحالة، لا تُعدّ العوامل الأساسية هي المحرك الرئيسي لسعر السهم، بل عوامل أخرى خارجية.
ويُطبق "أونيل" هذا المبدأ على أسهم الشركات التكنولوجية في الولايات المتحدة، مشيرًا إلى حاجتها إلى "قروش" (مستثمرين ذوي خبرة وقوة) للاستثمار فيها. ففي كثير من الأحيان، يتمّ بيع بعض أسهم هذه الشركات بشكل ممنهج لإثارة موجة من البيع الهلعي، مما يخلق فرصة للمستثمرين المُحنكين "القروش" لشراء أسهمها بأسعار منخفضة لتحقيق أرباح كبيرة.
ويقول "أونيل" أن الكثير من المستثمرين في هذه الحالة يترقبون القمم التي استنتجوها من صعود سهم ما بنسبة تتراوح بين 15-20% مثلا ثم تراجعه بنسبة تتراوح بين 10-12% لأكثر من مرة بما يصنع شكلًا يشبه المثلث في الرسم البياني.
ولذلك عندما يهبط السهم بنسبة 10 أو 12% يدخل هذا المتداول، أو المضارب بالأحرى، إلى السوق ويقوم بشراء السهم، طمعًا في ارتداد بنسبة 15-20% كما حدث في المرات السابقة، وفي كثير من الأحيان لا يحدث هذا الارتداد ويبقى السهم في اتجاه النزول والتراجع.
بالنهاية فإن هناك أنماطًا تتكرر بالسوق، ولكن السؤال حول مدى نجاعة الرهان على تكرار نمط معين في حالة سهم بعينه اعتمادًا فقط على سلوك المتداولين الجمعي، بينما يمتلك أدوات أخرى للتحليل الأساسي تعينه على الاستثمار في شركات تنبئ بمستقبل جيد، ففي الأولى رهان على آلاف العوامل الخارجة عن سيطرته، وفي الثانية رهان على معرفته بالسوق.
المصادر: أرقام- بيهيفريال أيكونميكس- نيويورك تايمز- فوربس- سي.إم.سي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}