في الوقت الذي تكابد فيه العديد من الدول أزمة طاقة ناجمة عن ارتفاع أسعار النفط والغاز، ومع سعي أوروبا والولايات المتحدة لتحجيم صادرات الهيدروكربون الروسية كوسيلة للضغط على موسكو بسبب حربها في أوكرانيا، وتنامي النداءات لمواجهة التغير المناخي، يبرز اسم الهيدروجين كحل مثالي لتحقيق أمن الطاقة بتكلفة معقولة مع الحفاظ على حد أدنى من انبعاثات الكربون.
ويُنظر إلى الهيدروجين، وهو العنصر الأكثر وفرة على الأرض ويمثل ثلاثة أرباع المادة في الكون، على أنه أداة أساسية في مواجهة التغير المناخي وتنعقد عليه الآمال ليكون مصدرا مهما من مصادر الطاقة النظيفة منخفضة الكربون نظراً لأهميته كعنصر لا يُصدر أي انبعاثات ضارة، ومن المتوقع أن يقتنص حصة قدرها 18% من الطلب العالمي على الطاقة بحلول 2050.
وتتنوع صور الهيدروجين، فالهيدروجين الرمادي معروف للقطاع منذ وقت طويل وهو الدرجة الأولية من إنتاج الهيدروجين في الطاقة عبر فصل الغاز الطبيعي وأحيانا النفط إلى هيدروجين وكربون مما يطلق انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وهو بالطبع الأكثر تلويثا للبيئة لكنه في الوقت نفسه النوع الأكثر شيوعا حاليا نظرا لرخص ثمنه وانتشاره في صناعات الكيماويات لإنتاج الأسمدة وتكرير النفط.
لكن عند التقاط تلك الانبعاثات وتخزينها فإننا نجد أنفسنا أمام ما يُطلق عليه الهيدروجين الأزرق.
أما الوافد الأحدث وهو الهيدروجين الأخضر فينتج من خلال عملية تسمى التحليل أو الفصل الكهربائي، والتي تقسم جزئيات الماء إلى هيدروجين وأوكسجين، ويوصف بالأخضر لأنه ينتج بواسطة الطاقة المتجددة ولا تنبعث عنه أي غازات دفيئة، ويتطلع إليه الخبراء باعتباره المفتاح لاقتصاد عالمي منزوع الكربون.
يشهد قطاع الهيدروجين حالة من الزخم، فوفقا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية ثمة 990 مشروعا جديدا للهيدروجين قيد التنفيذ حاليا. وتشير تقديرات إلى أنه تم الإعلان بالفعل عن مشروعات بقيمة لا تقل عن 600 مليار دولار في مجال الهيدروجين خلال الفترة الماضية ومن الممكن أن يزيد هذا الرقم إلى عشرة أضعاف بحلول منتصف القرن الجاري بحسب توقعات.
ينتج العالم 70 مليون طن من الهيدروجين، 70 بالمئة منه من الغاز الطبيعي، وينتج 9 كيلوجرامات من ثاني أكسيد الكربون لكل كيلوجرام من الهيدروجين. ويساهم استخدام الهيدروجين الرمادي بنسبة اثنين بالمئة من انبعاثات الكربون.
وبات التحول إلى الهيدروجين هدفا ضمن جدول أعمال شركات النفط الكبرى، التي دافعت باستماتة لسنوات عن أهمية الوقود الأحفوري وصعوبة العثور على بدائل، فقد شرعت هذه الشركات في وضع رؤية لمستقبل يتسم بانخفاض الانبعاثات الكربونية عبر ضخ مليارات الدولارات من أجل توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة وتحويلها إلى كيماويات أو وقود نظيف يمكن نقله في أنحاء العالم لتشغيل السيارات أو السفن أو حتى الطائرات.
وبحسب "جوليان رولاند" رئيس قسم الكهرباء والطاقة المتجددة لدى "ترافيجورا" لتجارة السلع الأولية فإن شركات النفط الكبرى تشيد مشروعات بعدة مليارات من الدولارات منذ وقت طويل، قائلا إن الهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء وغيرهما من المنتجات الصديقة للبيئة ستشكل قطاع الطاقة الجديد. ويرى "رولاند" أن هذه الرؤية تتماشى بشكل كامل مع نقاط القوة الطبيعية لشركات النفط الكبرى في إدارتها للمشاريع وثقلها المالي.
مشروعات عملاقة
شركة النفط البريطانية "بي بي" تقود حاليا مشروع مركز للطاقات المتجددة في آسيا بتكلفة 36 مليار دولار، وهو مشروع يهدف إلى توليد 26 جيجاواط من الكهرباء من محطات للطاقة الشمسية وطاقة الرياح على مساحة شاسعة تبلغ 6500 كيلومتر مربع في غرب أستراليا، وستستخدم الكهرباء المولدة لفصل جزيئات الماء إلى هيدروجين وأوكسجين. وفور تطويره بالكامل، سينتج سنويا 1.6 مليون طن من الهيدروجين الأخضر أو 9 ملايين طن من الأمونيا المستخدمة في صناعة الأسمدة.
من جانبها انضمت "توتال انرجيز" إلى تكتل صناعي تابع للملياردير الهندي "جوتام اداني" في مشروع يهدف لاستثمار نحو 50 مليار دولار على مدى السنوات العشر القادمة في الهيدروجين الأخضر. ويطمح استثمار مبدئي بقيمة 5 مليارات دولار في المشروع إلى تطوير 4 جيجاواط من طاقة الرياح والطاقة الشمسية، نصفها تقريبا سيغذي أجهزة فصل كهربائية لإنتاج الهيدروجين المستخدم في تصنيع الأمونيا. وقد يتوسع المشروع لإنتاج مليون طن من الهيدروجين الأخضر سنويا بحلول 2030 بدفع من 30 جيجاوات من الطاقة النظيفة.
وقال "بول بوجرز" نائب الرئيس المعني بالهيدروجين لدى شركة "شل" إنها مسألة وقت فقط قبل أن تتبع الشركة المسار نفسه من خلال مشروع عملاق خاص بالشركة. وأضاف في مقابلة على هامش قمة للهيدروجين عقدتها "فايننشال تايمز" في لندن أن الشركة تبحث عن موقع تتوفر فيه موارد كافية من الرياح والطاقة الشمسية لإقامة مشروع عملاق.
شركة "شيفرون" الأمريكية العملاقة أيضا لم تتخلف عن الركب وأعلنت استعدادها لإنفاق المليارات على مزيج من الهيدروجين الأخضر والأزرق، الذي يستخدم تفاعلا كيمائيا لفصل الغاز الطبيعي والتقاط وتخزين ثاني أكسيد الكربون.
ويشارك أيضا اللاعبون الأصغر حجما في سوق النفط، حيث تفحص "ترافيجورا" عددا من مشاريع الهيدروجين الأخضر متوسطة الحجم مثل تطوير قدرات بواقع 440 ميجاواط في أستراليا.
الجدوى الاقتصادية
في الأسابيع الأخيرة أيضا، ذكرت تقارير إعلامية أن أسعار الهيدروجين الأخضر انخفضت عن أسعار الغاز الطبيعي في ثماني دول أوروبية، وذلك في ظل ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي المسال في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة وبولندا، وإسبانيا، والسويد، وتركيا.
وتعتمد أسعار الهيدروجين الأخضر على أسعار الطاقة المتجددة وأجهزة الفصل الكهربائية وكلاهما يتراجع بسبب التطورات التقنية.
وبالطبع ثمة أسباب للتفاؤل بمستقبل الهيدروجين الأخضر منها أنه يمكن إنتاجه بكميات متفاوتة حسب المخرجات المتغيرة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كما أن نقله يسير ويتسم بانخفاض التكلفة. ومع الاختراقات التي تحققها الكثير من الشركات في مجالات صناعة أنواع مختلفة من أجهزة التحليل الكهربائي الرخيصة، يتوقع الخبراء أن يحل الهيدروجين الأخضر محل النفط والغاز الطبيعي كمصدر رئيسي للطاقة في العالم مستقبلا.
وكانت تكلفة تصنيع الهيدروجين الأخضر تبلغ مثلي تكلفة تصنيع الهيدروجين الرمادي في بداية 2022، لكن الصورة تغيرت بمرور الوقت.
فالاستثمارات الضخمة من الحكومات وجهود الشركات في مجالات البحث والتطوير تؤتي ثمارها بالفعل مع انخفاض أجهزة الفصل الكهربائية سريعا. فضلا عن ذلك، ثمة دعم على مستوى السياسات في صورة إعفاءات ضريبية ودعم على المستوى التنظيمي يمكن أن يساهم في خفض أسعار الهيدروجين أكثر.
يتم حرق الهيدروجين لتوليد الطاقة، ويطلق كيلوجرام واحد من الهيدروجين 33 كيلو واط/ساعة من الكهرباء عند الاحتراق، مما يجعله مناسبا للاستخدام الصناعي وكذلك لوسائل النقل الثقيلة التي تحتاج إلى كميات هائلة من الطاقة. ويمكن استخدامه أيضا في خلايا الوقود التي تولد الكهرباء عبر مزج الهيدروجين والأوكسجين في التفاعل. وفي خلايا وقود الهيدروجين، لا توجد أي انبعاثات باستثناء بخار الماء مما يجعله أكثر تناغما مع البيئة.
وشهدت السنوات العشر الماضية نمو مبيعات السيارات التي تعمل بخلايا وقود الهيدروجين على الرغم من ارتفاع أسعارها. وفي العام الماضي، جرى بيع 15500 مركبة على مستوى العالم، فيما استحوذ طرازا "هيونداي نيكسو" و"تويوتا ميراي" على 98 بالمئة تقريبا من مبيعات السيارات العاملة بخلايا الهيدروجين. كما جرى استخدام مئات الحافلات التي تعمل بخلايا وقود الهيدروجين في دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية لعام 2022 في بكين.
المصادر: أرقام- بلومبرج- فايننشال تايمز- وول ستريت جورنال
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}