قبل ثلاثة عقود كان عليك بذل جهداً كبيراً كي تحصل على معلومة، سواء من خلال الذهاب إلى مكتبة تظل تتصفح في الكتب المتاحة بها لفترة وتتنقل بينها حتى تصل إلى ضالتك، أو من خلال حضور محاضرات في المجال الذي تبحث فيه أو بالذهاب لرؤية خبير بما يستلزمه ذلك من بذل الجهد في الانتقال من مكان لآخر.
والآن لم يعد الأمر كذلك، فلست مضطرًا للإبحار بين الكتب الكثيرة والمراجع الضخمة أو بذل الجهد بالانتقال من مكان لآخر، بل يمكنك إذا أردت العثور على معلومة أن تحصل عليها بكبسة زر واحدة، لينخفض وقت تحصيل المعلومة إلى ثواني بدلًا من ساعات أو أيام.
نعمة ولكن
وعلى الرغم من أن هذا الأمر تيسير و"نعمة" إلا أن بداخله "نقمة" من جانب آخر، فبعد أن أصبح الحصول على المعلومات أمرًا ميسورًا زادت كميتها، بما جعل الكثير من الناس يعانون من أزمة تخمتها بدلا من معاناتهم من شحها. قانون العرض والطلب يفترض أنه كلما قل مقابل شيء ازداد الإقبال عليه).
ولهذا أصبح كثيرون يعانون مما يعرف حاليا بـ"الإغراق المعلوماتي" أو "الحمل المعلوماتي الزائد" ويقصد به أن يفوق حجم المعلومات لدى الشخص قدرته على معالجتها، وهو ما يؤثر على الناس في كافة مناحي الحياة وفي الاستثمار بصفة خاصة.
وكشفت دراسة أجرتها "جولي اجينو" و"ليزا سزيكمان"، المدرستان بكلية "ماسون" لإدارة الأعمال في "فيرجينيا"، حول تأثير "الإغراق المعلوماتي" على المستثمرين أن قرابة 94% من المستثمرين يعانون آثارًا سلبية بسبب ذلك.
وتشير الدراسة إلى أن المستثمرين والمتداولين في البورصة يحرصون على جمع المعلومات ومتابعة البيانات حتى يفقد أكثر من 70% منهم القدرة على التمييز بين المعلومات "ذات الصلة" وتلك "غير المهمة" و"غير الحيوية" و"ذات الأهمية المحدودة" ليصبح جمع المعلومات هنا نقمة وليس نعمة لأنها لا تدعم "رشادة" إتخاذ قرار صحيح.
أما 24% من المستثمرين فيدركون أن بعض المعلومات قد لا تكون على نفس درجة الأهمية، لكنهم يسعون للحصول عليها على أية حال، لتشكل لها عنصر "تشويش" يمنعهم من اتخاذ قراراتهم بشكل صائب ودون "الشعور" بأنه "قد يكون فاتهم شيء ما"، بما يجعل قراراتهم متأخرة بعض الشيء أو حتى يجعلهم يتخذون القرارات الصحيحة في وقت مناسب ولكن مع إرهاق ذهني وعصبي شديد.
ويتبقى 6% من المستثمرين الذين يعرفون جيدا ما المعلومات التي يحتاجون إليها كي يتخذوا قرارهم الاستثماري فيسعون إليها ولا يرهقون أنفسهم في البحث ما وراء ذلك بما يجعلهم يتخذون قرارات أفضل في السوق، فضلا عن تمتعهم بدرجة أكبر من الراحة الذهنية.
العودة لـ"الاختيار الأساسي"
وتتفق تلك الدراسة مع ما تكشفه غالبية الدراسات حول قدرة 10% فقط من المتعاملين في أسواق المال على جني الأرباح، بينما غالبا ما يخرج 90% خاسرين أو برؤوس أموالهم فحسب، ولا شك أن اقتراب تلك النسبة من نسبة القادرين على فرز المعلومات الهامة عن غيرها ليس محض صدفة.
ومع الضغط الناجم عن كثرة المعلومات والعجز عن اتخاذ قرار صحيح بناء على معطيات واضحة يميل المتعاملون في السوق إلى ما يعرف بـ"الاختيار الأساسي" أو اختيار اتخذوه قبل ذلك وحقق نتيجة جيدة، أو الاختيار الذي يوصي به سمسار البورصة أو البنك أو حتى تحليل ما على حساب ما بذل جهد في جمعه، وقد لا يكون هذا الاختيار صالحا لهذا التوقيت.
ولذلك تشير الدراسة إلى أن الأكثر نجاحًا في السوق هم هؤلاء الذين يعتمدون على "المعارف الرئيسية" من اقتصاد وتمويل وتحليل سياسي على حساب هؤلاء الذي يعتمدون على "قراءات مرحلية" للسوق.
"لينش" وتسهيل الاستثمار
ومن ضمن التجارب اللافتة للغاية في مجال الاستثمار والاغراق المعلوماتي ما قام به "بيتر لينش" في شركة "فيديلتي"، حيث وصلت عائدات صندوق إدارة الاستثمارات الكبير، والتي يبلغ حجم استثماراته حاليًا 4.2 تريليون دولار إلى 29.2% في المتوسط سنويًا خلال الفترة التي قضاها في إدارة استثمارات الصندوق.
وكان "لينش" مديرًا للاستثمارات في الشركة في الفترة بين 1977-1990، وخلال هذه الفترة حقق عائدات تفوق ضعف العائدات المتوسطة لمؤشر "ستاندرد أند بورز" ونمى بالأصول الخاضعة لإدارة الشركة من 14 مليون دولار إلى 18 مليار دولار.
واستمر "لينش" بعد ذلك مستشارًا للصندوق، ولكن الفترة التي قضاها كمدير لاستثماراته يعدها الكثيرون بمثابة الأساس الذي قام عليه أحد أكبر صناديق الاستثمار في العالم حاليًا، إذ وضع أسس صلبة للشركة للاستمرار والنمو.
ويقول "لينش" حول ما فعله لتحقيق تلك النجاحات إنه يركز على مفهوم "تسهيل الاستثمار" بدلا من تعقيده، وذلك من خلال الحد من كمية المعلومات التي يتم اتخاذ القرار وفقًا لها، حيث يقدر إنه تخلص من أكثر من 90% من المعلومات التي كان المحللون في الشركة يغرقون فيها لاتخاذ قراراتهم.
ويرى "لينش" أن المحللين ينهكون أنفسهم بإتجاهات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية غير ذات صلة باستثماراتهم الحالية، على الرغم من أهميتها في مجالات أخرى أو حتى في استثمارات أخرى، وبذلك لا يولون المعلومات الهامة الاهتمام المفترض.
ولعل تجربة "لينش" في الاستثمار في مقهى "دنكن دونتس" قبل عقود خير دليل على أسلوبه "استثمر فيما تعرف"، حيث قرر "لينش" ضخ استثمارات "فيديلتي" في المقهى بناء على إعجابه بالمستوى الذي يقدمه المكان الذي يبيع القهوة والحلويات سويا، أي أن تجربته كمستهلك قادته للاستثمار في "دنكن دونتس".
ويقول "لينش" إنه رأى أن الأخرين سيعجبون بما يقدمه المقهى ولذلك قرر الاستثمار فيه، مضيفا "لقد كانوا حريصون بشدة على جودة القهوة التي يقدمونها، فلا يحتفظون بها أكثر من 15 دقيقة ويتخلصون منها بعد ذلك ويعدون قهوة جديدة حرصا على رضا المستهلك، كما يحتفظون بها في درجة حرارة ساخنة باستمرار بحيث لا تقل أكثر من 3 درجات عن درجة حرارتها فور إعدادها بأي حال".
وأضاف "لينش" أنه رأي ضرورة التوسع في المطعم الذي لم يكن يمتلك أكثر من 7 فروع في هذا الوقت، مشيرا إلى أن لديه "مقومات" ذلك، وهو حرص الشركة الشديد على العميل ووجود هذه الثقافة بالفعل فيها، ووصول هذه الرسالة بالفعل إلى العملاء، وهو منهم.
وبالفعل بدأت استثمارات "فيدلتي" في المقهى في عقد الثمانينات بالكامل لينتهي الأمر بتحول الفروع السبعة إلى أكثر من 1800 فرع ساهمت في تنمية ثروة الشركة وتحقيق النجاح الاستثنائي الذي حققه "لونش" فيها.
والملاحظ هنا أن معلومة "لينش" الأساسية كانت الاهتمام الفائق بالعملاء في الشركة فضلا عن وجود فجوة في السوق، بما جعل "الأمر سهلا" وفقًا لتعبيره، لإنه لم يكن هناك حاجة لإجراء دراسات معقدة أكثر من تلك حول الفجوة في السوق وحول معدل الربحية المنتظر مع التوسع بعد ذلك.
وخلال فترته في "فيديلتي" استثمر في شركات "فورد" و"فيليب موريس" و"جنرال إليكتريك" و"فولفو" و"كيمبر" وكان الأساس في كافة تلك الشركات هو البحث عن معدل الربحية إلى قيمة السهم (والذي يعد "لونش" صاحب الفضل في ابتكاره وفقًا لكثيرين) والتأكد من وجود فجوة في السوق بما يضمن استمرار هذا المعدل مرتفعًا مستقبلا فحسب.
ولذلك يؤمن "لينش" دائما بشعار "الشركات المملة تحقق نتائج أفضل" لأنه لا يحيطها الكثير من البيانات والملابسات التي يجب تحليلها من أجل الوصول إلى قرار الاستثمار فيها من عدمه، وكلما قلت المعطيات كلما كانت النتائج المحتملة أفضل.
ولتجنب آثار الإغراق المعلوماتي يمكن اتباع ما يأتي:
-اعرف ما المعلومات التي تريدها بدقة: فقرار الاستثمار في شركة ما يبدأ بمجرد "فكرة" تطرأ على رأس المستثمر أو المتداول، ولتلك الفكرة سبب فهو يتساءل "لماذا لا استثمر في تلك الشركة؟"، وهنا يجب أن يحدد ما "فجوة المعلومات" التي تعترضه؟ بمعنى أن يسعى للحصول على المعلومات التي ستجعله يستثمر أم لا يستثمر في الشركة فحسب وليس جمع عام للمعلومات.
-الاعتماد على الآخرين: ليس عليك أن تكون خبيرًا وتجمع المعلومات عن كل شيء، فإذا كانت الشركة التي تزمع الاستثمار فيها تكنولوجية مثلا فعليك سؤال خبير في التكنولوجيا (موثوق بالطبع) إذا كان أمرًا تقنيًا سيؤثر على قرارك بالاستثمار فيها، وهذا سيقلل حجم المعلومات الذي يضطر المستثمر للتعامل معه.
-حسن اختيار الوسيط أو البنك: دور الوسيط مهم للغاية في التوجيه، وعليه فإنه يجب تجنب الوسيط الذي يمنع المعلومات عن المتداول وكذلك يجب تجنب هذا الذي يغرقه في تفاصيل قد تحول دون اتخاذه للقرار الصحيح في الوقت المناسب.
وختامًا فإنه على المستثمرين اتباع ما اعتاده فلاسفة وعلماء وفقهاء العرب من نصيحة بأنه إذا أردت التصدي لمسألة فعليك "أن تخرج من الأمر ما ليس منه"، فبهذا فقط يستقيم القرار ويكون اتخاذه على أسس صحيحة، سواء في الاستثمار أو غيره.
المصادر: أرقام- بيهيفريال ايكونوميكس- فوربس- ميديان- إنك- ذا كونفيرزيشن
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}