يتساءل كثير من الناس باستغراب عن سر الطوابير الطويلة على منتجات شركة "آبل"، ما هو سبب ارتفاع سعر الذهب مقارنةً بسعر عبوة المياه المعدنية، أو سر غلاء ثمن علامة "مرسيدس" الألمانية مقارنة بـ "شانجان" الصينية، وفي بعض الأحيان حين تقارن بين نوعين من الجوالات تجد نفس المكونات والمميزات متشابهة لكن أحدهما يتم تسعيره بـ 3 أضعاف الآخر!.
الندرة هي التفسير المنطقي الرئيسي من ضمن تفسيرات كثيرة تصنع هذه الاختلافات بين الطرازات من السلعة الواحدة أو بين السلعة الواحدة والأخرى في نفس القطاع، وكذلك هي واحدة من أهم الأساسات الاقتصادية التي بُني عليها الكثير من السياسات العامة والنظريات وبرامج العمل في الشركات والحكومات.
هي ببساطة تدور حول قلب الاقتصاد وجوهر إدارة الدول لقدراتها واستثمار إمكانياتها، ويمكن أن يؤثر على كيفية استخدام الشركات أو الحكومات للموارد وتصنيع منتجاتها ومعالجة احتياجات مواطنيها وموظفيها، فهم النُدرة وكيف يمكن أن تؤثر عليك أمر ضروري لإدارة نجاحه على مستوى الدولة ثم الشركة ثم الفرد.
الندرة تعني أنك لن تستطيع الحصول على كل شيء، وبالتالي عليك الاختيار وترتيب أولوياتك، كما أن فهم الندرة يؤدي إلى معنى آخر وهو النقص في المعروض مقارنة بالطلب، أو عدم كفاية الموارد للاحتياجات من سلعة أو خدمة ما، هذا الفارق بين الاحتياجات المطلوبة اللامحدودة والكمية المتاحة المحدودة هو الذي يخلق النُدرة النسبية، وهي نسبية لأنها تختلف من مورد لآخر ومن مجتمع لآخر.
لنفترض أن دولة ما تعاني نُدرة في الإنتاج الكهربائي، هذا يعني أن الطلب على الكهرباء من المنازل والمصانع والشركات والمؤسسات أكبر من المعروض، لنفترض أن الفارق بين المعروض والمطلوب يُقدر بـ 10 آلاف ميجاواط، هنا تظهر أزمة ويجب على متخذ القرار أن يتنبه إليها ويحاول صياغة الحلول اللازمة لعلاج أزمة نُدرة الكهرباء اللازمة لتشغيل المجتمع عند نقطة التوازن.
التوازن هو الهدف الأسمى من أي قرار اقتصادي، أو ما يُطلق عليه Equilibrium Point، لذلك حين تظهر أزمة نقص في سلعة معينة، يكون مطلوباً من صانعي ومُتخذي القرار أن يقوموا بصياغة برامج عمل وسياسات معينة تقوم بالاستخدام الأمثل للموارد المحدودة للدولة لتلبية الاحتياجات المتزايدة واللا محدودة، وهو ما يطلق عليه تخصيص الموارد بكفاءة.
وهذا ينقل الحديث إلى فكرة أخرى، وقف الهدر وحُسن استغلال الموارد المحدودة وتحقيق أكبر مكسب من كل شيء تملكه الدولة يعني الاستخدام الأمثل لأصول هذه الدولة أو الشركة، وهي سياسة تعمل على جانبين بالتوازي، الأول هو جانب وقف الهدر، والآخر هو جانب تعظيم الإيراد.
الفشل في هذا الاختبار يعني حالة عدم استقرار في المؤسسة أو المجتمع، لذلك تسعى دول كثيرة إلى إنشاء مؤسسات تتخصص بإدارة ثرواتها بأفضل شكل ممكن، وهذا يستوجب التطرق إلى معادلة محاسبية أساسية فى المحاسبة الحكومية ومحاسبة الشركات: العائد على الأصول أو ROA وهنا نقوم بقسمة إجمالي أصول وموجودات الدولة أو الشركة على الأرباح المحققة.
تقييم مدى نجاح الشركة أو الدولة يختلف بحسب تخصص وطبيعة كل حالة، لكن مثلا في قطاع صناعات ثقيلة كثيف العمالة ومعقد، قد تكون نسبة الـ 6% جيدة للغاية ويعني أن الشركة تؤدي بشكل جيد في إدارة مواردها، بينما في قطاع بسيط وصغير وغير معقد مثل تطبيقات النقل التشاركي، فقد تكون نسبة 15% هي الحد الأدنى الذي يؤشر لحسن إدارة الشركة لمواردها، ومع ذلك تختلف الأمور من مكان لآخر لكن المعادلة هنا هي الدرس المستفاد.
إذًا الدولة الغنية هي التي تحقق عائداً مرتفعاً على الأصول بأكبر قدر ممكن، بينما الدولة الفقيرة هي العكس، وهو ما ينقلنا إلى محور آخر وهو ما الذي يجعل دولة غنية وأخرى فقيرة؟ وفقاً لتصنيف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، فإن لوكمسبورج هي أغنى دولة بالعالم، بينما جنوب السودان في ذيل القائمة وأفقر الدول.
هناك مجموعة من العوامل التي ساهمت في ذلك، منها عدد السكان مقسوماً على حجم الموارد الطبيعية، وكذلك درجة مكافحة أو انتشار الفساد في المستويات المختلفة للإدارة الحكومية، إضافة إلى جودة السياسات العامة وتطور التعليم والمناهج الدراسية، والأهم من ذلك هو مرور الوقت الكافي لكي تنضج التجربة ويظهر أثر السياسات الصحيحة والبرامج الفعالة.
لكن الندرة لا تكون فقط بسوء الحكم أو ضعف الإدارة أو قلة الموارد، هناك أسباب أخرى خارجة عن سيطرة الحكومة أو الشركة محل الدراسة وهذا يسمى بندرة العرض، أي أن الطلب عند مستويات عادية ولم يحدث بها تغيير لكن فجأة ينخفض العرض، للتبسيط فكر في هذه الأمثلة:
- ظروف مناخية مفاجئة تسببت في هلاك محاصيل وبالتالي ندرة كمية المعروض من هذه السلع الزراعية.
- عقوبات تفرضها دولة على أخرى تسببت في وقف استيراد مواد خام لازمة لتصنيع أدوية.
- صعوبة الوصول لعمالة ماهرة أو موظفين على قدر عالٍ من الموهبة والكفاءة مما يؤدي إلى تراجع الإنتاجية من بعض المنتجات.
- تغيرات في ثقافة واتجاهات المستهلكين وكيف يتفاعلون مع الإعلانات والدعاية للمنتجات وكيف تتبدل تفضيلاتهم، ما يؤدي إلى رفع الطلب على منتج مقابل خفض آخر.
إن استمرار وجود ندرة في معظم أنحاء العالم يتطلب طرح بعض الأسئلة الملحة، مثلا: لماذا يوجد مثل هذا التفاوت بين البلدان الغنية والفقيرة؟، في الولايات المتحدة يملك أغنى 10% من الأمريكيين حوالي 79% من الثروة في أسوأ وضع لتوزيع الثروات بين بلدان مجموعة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD.
الندرة النسبية: أزمات الطاقة واللقاح
أزمة الطاقة الحالية والتي تعاني منها الدول الأوروبية حالياً وخاصة بعد ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بنسب تتجاوز 500% مقارنةً بسعر أول العام، هي إحدى التطبيقات العملية على الندرة في الطاقة وتوليد الكهرباء، احتياجات أوروبا تبلغ مقداراً أكبر بكثير من المعروض في السوق، وهنا حدثت أزمة ندرة هيكلية بمعنى أنها كانت أزمة في طلب مرتفع ومفاجئ وفي نفس الوقت عرض قليل وأضعف من الاحتياجات.
أزمة سوء توزيع لقاحات كورونا حول العالم بين العالم الفقير والعالم الغني تتجلى أيضاً كأحد أبرز أمثلة الندرة النسبية في عالم اليوم، الدول منخفضة الدخل لم تتجاوز نسبة الملقحين لديها 1% من السكان، بينما تجاوزت فى الدول مرتفعة الدخل نسبة 40% حتى يوليو الماضي.
ولا تزال هناك فجوة كبيرة بين فئات الدول طبقاً لقدرة كل بلد في شراء وتوريد اللقاح من الخارج أو تصنيعه محلياً عبر شراكات دولية مع الشركات المصنعة والدول الرئيسية في صناعة اللقاحات، وبالتالي فإن نقص المخصصات المالية وضعف البنية التحتية الصحية وهشاشة القدرات الاقتصادية تجعل من الدول منخفضة الدخل تواجه ندرة في اللقاحات وأزمة صحية كبيرة.
المصادر: أرقام – منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية – إنفستوبيديا.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}