مع تسلم الرئيس الأمريكي جو بايدن مهام منصبه رسميًا، قبل شهرين، بدأت ترتسم ملامح المرحلة المقبلة للاقتصاد الأمريكي، خاصة بعد إقرار حزمة تحفيز ضخمة بقيمة 1.9 تريليون دولار، لكن آفاق المستقبل المنظور لا تبدو مرضية للأسواق.
على مدار الشهرين الماضيين لم يكن إقرار الحزمة التحفيزية فقط هو الحدث الأبرز، ولكن أيضًا تسارع جهود التطعيم في أرجاء الولايات المتحدة، التي تنذر بقرب نهاية الوباء، مما يعطي بطبيعة الحال مساحة كبيرة للانتعاش الاقتصادي بعد عام من كبت الإنفاق.
صحيح أن هذا يعني صحوة اقتصادية (قوية بفضل التحفيز) لكنه ينذر أيضًا بتفاقم معدلات التضخم، ما يستدعي تدخل الاحتياطي الفيدرالي لكبح ارتفاع الأسعار والإبقاء على نمو معتدل للاقتصاد، من خلال رفع أسعار الفائدة.
هذه الرؤية تبناها كثيرون إلى جانب المخاوف من نمو محموم يقود في النهاية إلى عواقب اقتصادية غير مرغوبة، حيث التضخم عند مستويات مرتفعة للغاية والمعروض لا يكفي الطلب ومشاكل أخرى في التوظيف والإنتاج.
ولعل هذا القلق تجلى بشدة في الشهر الماضي وأوائل مارس، عندما شهدت الأسهم في وول ستريت تقلبات شديدة، وسط مخاوف متزايدة من التصحيح، تزامنت مع ارتفاع عائدات السندات، وتوقع متعاملون استمرار ارتفاعها وتفاقم الضغط ليضطر الفيدرالي إلى رفع الفائدة في نهاية المطاف.
الابن المدلل
- في محاولة لامتصاص قلق المستثمرين وتهدئة المخاوف التي تنذر بانهيار وشيك في سوق الأسهم الأمريكي، قرر الاحتياطي الفيدرالي تثبيت معدل الفائدة عند النطاق بين صفر و0.25% أمس الأربعاء، وحافظ على برنامج شراء الأصول عند 120 مليار دولار شهريًا.
- أعطى ذلك جرعة أكسجين بعد أسابيع من الاحتقان والترقب، ليقفز مؤشر "داو جونز" فوق مستوى 33 ألف نقطة لأول مرة في تاريخه، مع ارتفاع باقي المؤشرات الرئيسية خلال جلسة الأربعاء أيضًا، وهي بالفعل قرب أعلى مستوياتها على الإطلاق.
- في الحقيقة، أصبح من الصعب، خاصة على مدار العام الماضي والأشهر القليلة من هذا العام، قراءة واستنباط توجهات البنوك المركزية في ظل أزمة الوباء، ولعل ذلك يفسر سلسلة الإشارات الصريحة والواسعة التي أطلقها الفيدرالي عقب اجتماعه لطمأنة مخاوف المستثمرين.
- قال الفيدرالي إنه يتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بنسبة 6.5% في العام الجاري، أي أعلى من 4.2% كما توقع في ديسمبر، وبنسبة 3.3% في 2022، كما توقع تراجع البطالة إلى 4.5% في العام الجاري ثم 3.5% في 2023.
- رفع أيضًا توقعاته للتضخم إلى 2.4% في العام الجاري مقارنة بـ1.8% توقعها سابقًا، ورغم أن ذلك إلى جانب توقعات النمو والبطالة القوية، تنذران بأنه قد يحتاج إلى تدخل مباشر عبر زيادة أسعار الفائدة، لكنه أرسل رسالة أخرى مباشرة للأسواق كانت سببًا في إبهاجها.
- لم يكن تثبيت الفائدة هو فقط ما يحظى بتفاعل سوق الأسهم، وكان أهم ما جاء على لسان رئيس البنك "جيروم باول" هو أنه لا يتوقع رفع الفائدة خلال العامين القادمين على الأقل، وقلل من ضرورة الاستجابة لارتفاع عائدات السندات، مستبعدًا التفكير في خفض برنامج شراء الأصول قريبًا.
أسواق غريبة الأطوار
- في حين يبدو أن الفيدرالي يعامل سوق الأسهم باعتباره "الابن المدلل" أو ربما "المزعج" الذي يثير الضجة في أوقات التحولات، لكن الحقيقة أن الأسواق كانت مضطربة وتتصرف بشكل غير مفهوم منذ فترة، وربما الرسائل الواضحة والمطمئنة تلك تكون سببًا في تجنب تحولات أكثر إزعاجًا.
- في الأسبوع الماضي تحديدًا، واصل مؤشر "داو جونز" كسر المستويات القياسية، دون غيره من المؤشرات الرئيسية الأخرى، وفي حين كان مؤشرا "إس آند بي 500" و"راسل 2000" قريبين من مستوياتهما الأعلى، كان "ناسداك" بعيدًا نوعًا ما.
- النظرة العامة على السوق، ليست كافية ليفهم المرء ما إذا كانت الأسهم تسلك مسارًا صعوديًا أم هبوطيًا، والأكثر أن حتى المكاسب كانت بدعم من أسهم الشركات القديمة (بعضها متهالك وفي خضم تحولات هيكلية)، وهي إشارة ليست جيدة في السوق الأمريكي وهذا أمر معروف تاريخيًا.
- أيضًا، كانت التقلبات اليومية شديدة للغاية في الأسابيع القليلة الماضية، حيث ظل مؤشر "فيكس" أو الخوف كما يطلق عليه وهو يقيس التقلبات فوق مستوى 20 نقطة، وعلى مدار 12 يومًا في بداية مارس ارتفع مؤشر "إس آند بي 500" بمقدار 22 نقطة فقط.
هل يتصرف الفيدرالي بحكمة؟
- قدم بنك الاحتياطي الفيدرالي شيئًا اعتبره الكثيرون، بمن فيهم الاقتصادي "محمد العريان"، أمرًا صعبًا؛ وهو الاعتراف بالتحسن الاقتصادي الكبير، والحفاظ على السياسة الحالية وعدم إزعاج الأسواق.
- لكن من المحتمل أن تكون قدرته على تكرار مثل هذه النتيجة أكثر صعوبة في الأشهر القليلة المقبلة، حيث إنه مضطر إلى مراجعة معدل النمو بالرفع، ومع ضعف العرض وتزايد الطلب، سيواجه مقايضة صعبة لمحاولة إرضاء أسواق الأسهم والسندات معًا.
- سيكون على الفيدرالي محاولة تهدئة المخاوف المرتبطة بعائدات السندات، من خلال الإشارة إلى المزيد من عمليات شراء الأوراق المالية، وبالتالي المخاطرة برفع آخر في التوقعات التضخمية.
- عدم تعديل توقعات السياسة المستقبلية مع ارتفاع العائدات لأسباب اقتصادية صحيحة وفي ظل ارتفاع مؤقت في التضخم (كما يتوقع الفيدرالي)، سيخاطر بنوبة غضب من سوق اعتادت تطمينات السياسة المتكررة استجابةً للتقلبات.
- أما إذا أشار إلى بداية محتملة لتحول في السياسة النقدية نظرًا للتوسع المالي الكبير والتعافي المستمر والطلب الخاص المكبوت والذي يوشك أن ينفجر، فسيخاطر بالاضطراب من الأسواق التي تحرص دائمًا على ضخ السيولة الوفيرة والمتوقعة من الاحتياطي الفيدرالي.
- على أي حال، حتى الآن يبدو أن "باول" نجح في استيعاب مخاوف سوق الأسهم وطمأنة المستثمرين المذعورين من احتمال إنهاء عهد "السياسة المتساهلة"، ويقول محللون إن مؤتمره بالأمس "كان أحد أفضل اللقاءات على الإطلاق" حيث أدار الجوانب النفسية للأسواق بنجاح.
- تبقى معرفة ما إذا كانت التقلبات والحركات غير المعهودة للأسواق ستختفي خلال الأسابيع القليلة القادمة، أم أنها باقية بالنظر إلى مخاوف أخرى غير متعلقة بالسياسة؟ وعلى المدى الطويل ستحسم مؤشرات التضخم ما إذا كانت رؤية الفيدرالي ثاقبة، وبالتالي كان حكيمًا في بث هذه الرسائل والوعود طويلة الأجل أم لا.
المصادر: أرقام- ماركت ووتش- فاينانشيال تايمز- بلومبيرغ- سي إن بي سي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}