على مدار أكثر من 15 عامًا تمكّن "حسن" من شق طريقه في واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا بالمملكة ليصبح واحدًا من أبرز موظفيها، وكان الرجل سعيدًا بشركته وبطبيعة عمله إلى أن قامت الشركة بتعيين "منصور"، المهندس حديث التخرج.
فجأة أصبح "حسن" ناقمًا على شركته وعلى وظيفته وذلك بعد أن علم بأن الشركة منحت المهندس الجديد راتبًا لا يقل كثيرًا عن راتبه الذي اجتهد لأكثر من عقد ونصف قبل أن يتمكن من الحصول عليه، وهو ما دمر معنوياته وتسبب في مغادرته للشركة بعد فترة وجيزة.
مغادرة "حسن" لشركته تفسرها النظرية الاجتماعية الشهيرة المعروفة باسم "نظرية المقارنة الاجتماعية" والتي تشير إلى أن الأشخاص يقومون بتحديد قيمتهم الاجتماعية والشخصية بناءً على القيمة الخاصة بأوساطهم الاجتماعية، أي أنهم يستمدون قيمتهم من تلك المقارنات.
القرد المظلوم
في أبريل من عام 2000 نشر عالم الرئيسيات "فرانس دي فال" دراسة تناول خلالها السلوك التعاوني لدى مجموعة من القردة التي تنتمي لأسرة إحيائية تُعرف باسم "كبوشاوات"، درب "دي فال" القردة على استخدام الأحجار كعملة يستخدمونها في الحصول منه على الطعام.
وكان الأمر يتم بهذه الطريقة: يفتح "دي فال" يده اليسرى الفارغة ليضع فيها القرد حجرًا قبل أن يقوم بإعطائه شريحة من الخيار بيده اليمنى. السؤال الآن: هل الحجر سعر عادل لشريحة الخيار؟ بالنسبة إلى هذه القرود، نعم كان عادلاً جدًا طالما أن الجميع يحصل على شريحة الخيار بنفس الثمن، وكان الجميع سعيد بذلك.
استمر الوضع على هذه الحال إلى أن قام "دي فال" بتغيير بسيط، جاء الرجل بقردين ووضعهما في قفصن متجاورين ثم بدأ عملية المبادلة معهما، تلقى القرد الأول شريحة الخيار مقابل الحجر كما هو المعتاد، في حين حصل القرد الثاني على عصير العنب الحلو مقابل حجره، والقردة مثلها مثل البشر يقدرون العنب أكثر من الخيار.
بمجرد رؤيته لهذا الظلم غضب القرد الأول ورفض أن يأخذ شريحة الخيار مقابل حجره ورماها على أرضية القفص قبل أن يجلس حزينًا منزويًا في الجزء الخلفي من القفص، أما القرد الثاني فتسللت يداه إلى أرضية قفص زميله ليأخذ قطعة الخيار الخاصة به بالإضافة إلى العنب الذي حصل عليه مقابل حجره من مجري التجربة، ويأكل الاثنان بينما يشعر بالسعادة.
ما توضحه لنا هذه التجربة هو أن القرد الأول لم يكن ليرفض الخيار لو كان معزولًا عن غيره، ولكن حين رأى كيفية تصرف "دي فال" مع القرد الثاني قارن دون أن يقصد قيمة ما يحصل عليه مع قيمة ما يحصل عليه زميله.
الاتفاق الذي أمسى عادلًا وأصبح ظالمًا
في عام 2003 اقتربت شركة الخطوط الجوية الأمريكية "أمريكان إيرلاينز" من حافة الإفلاس، وفي سعيها لخفض التكاليف من أجل إنقاذ الشركة بأي شكل طلبت إدارة الشركة من النقابات الممثلة للعاملين قبول تنازلات حادة تتعلق بمستحقاتهم المالية.
ونجحت الإدارة في إقناع النقابات بالموافقة على خفض قيمة الامتيازات السنوية للموظفين والعمال بنحو 1.8 مليار دولار، تشمل 660 مليون دولار من الطيارين و620 مليون دولار من الميكانيكيين والعمال على أراضي المطارات، و340 مليون دولار من المضيفات.
كان الجميع راضيًا بهذه الشروط إلى أن ظهرت معلومة جديدة، ففي اليوم التالي لموافقة النقابات، اكتشف العاملون أن الإفصاحات المالية المقدمة من قبل الشركة لهيئة الأوراق المالية والبورصات تظهر أن الإدارة العليا لـ"أمريكان إيرلاينز" قدمت مكافآت كبيرة لـ45 من أفضل التنفيذيين بالشركة من أجل إقناعهم بالبقاء معها حتى عام 2005.
تخيل نفسك أحد هؤلاء الطيارين، بالمساء تم إقناع نقابتك بالتخلي عما قيمته 660 مليون دولار من الامتيازات، وفي الصباح اكتشفت أن العديد من المديرين التنفيذيين سيحصلون على مكافآت يصل بعضها إلى 1.6 مليون دولار، كيف سيكون رد فعلك؟.
غضب الجميع وقررت النقابات قلب الطاولة وتراجعت عن تنازلاتها وانهارت المفاوضات بين الجانبين، كما فعل القرد الأول في التجربة السابقة، كان أعضاء النقابات يشعرون بأن الاتفاق عادل إلى أن اكتشفوا أن غيرهم حصل على شروط أفضل.
هذا هو نفس ما شعر به "حسن" حين علم راتب "منصور"، فعندما قارن راتبه مع راتب زميله الجديد شعر بالضيق ليس من "منصور" فقط وإنما من الشركة كلها.. "حسن" كان سعيدًا بقطعة الخيار التي يحصل عليها إلى أن رأى "منصور" يحصل على العنب.
وفي النهاية، فشلت شركة "حسن" وشركة "أمريكان إيرلاينز" في فهم قوة المقارنات الاجتماعية أثناء تركيزهما على هدف واحد مثل تعيين موظف جديد أو الاحتفاظ بأفضل المديرين.
وكما يقولون: العاقل مَن اتعظ بغيره، لذلك إذا كنا نوظف موظفًا جديدًا أو نبرم صفقة مع عميل أو نتخذ قرارًا بشأن الملابس التي نشتريها لأحد أطفالنا يجب أن ننتبه جيدًا للكيفية التي تغير بها المقارنات الاجتماعية مواقف الناس وسلوكياتهم وتصوراتهم.
المصادر: أرقام
دراسة: Capuchins do cooperate: the advantage of an intuitive task
كتاب: Friend & Foe: When to Cooperate, When to Compete, and How to Succeed at Both
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}