الرئيس الأمريكي يائس جدًا. أيامه باتت معدودة، ويطلب العون دون جدوى من مساعديه. وعلى الرغم من أنه لم يعرف عنه التدين أبدًا إلا أنه بمجرد أن تلاشى ضوء النهار خارج البيت الأبيض خر جالسًا على ركبتيه ليدعو وهو يبكي بصوت عال ويتساءل: "ماذا فعلت؟ وما الذي حدث؟".
بمجرد أن أشار الرئيس إلى أن الجيش يمكنه أن يسهّل عليه الأمر لو أنه ترك له مسدسًا في أحد أدراج مكتبه البيضاوي، اتصل رئيس أركان البيت الأبيض فورًا بأطباء الرئيس وأمرهم بإبعاد كل الحبوب المنومة وكذلك المهدئات عن أي مكان يوجد به للتأكد من أنه لن ينتحر أو يقتل نفسه.
تلك كانت أحوال الرئيس الأمريكي السابق "ريتشارد نيكسون" في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، والذي خرج منه إثر فضيحة "ووترجيت"، أحد أكثر الأحداث دراماتيكية في التاريخ الأمريكي، وذلك بحسب ما ذكره الصحفيان الأمريكيان "بوب ودورد" و"كارل برنستين" في كتابيهما "الأيام الأخيرة" الصادر في 1976.
أجبرت الفضيحة "نيكسون" على الاستقالة من منصبه. وبعدها وُجه الاتهام إلى 29 شخصًا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بإدارته في تلك القضية، بينما سجن الكثير من كبار مساعديه ومستشاريه بما فيهم المدعي العام "جون ميتشل"، ولكن "نيكسون" نفسه أفلت من الملاحقة القضائية لأن خليفته "جيرالد فورد" منحه عفوًا في سبتمبر 1974.
"ترامب" يفقد الحصانة
على مدار التاريخ لم يتهم أي رئيس أمريكي بارتكاب جريمة جنائية، ولكن هذا قد يتغير في الشهور القادمة بينما يقف الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته "دونالد ترامب" على بعد شهرين تقريبًا من مغادرة البيت الأبيض إثر هزيمته في الانتخابات الرئاسية.
"ترامب" نجا مؤخرًا من محاولة عزل قادها ضده خصومه الديمقراطيون، ونجا قبلها من قضيتي طلاق وست حالات إفلاس و26 تهمة تتعلق بسوء السلوك الجنسي ومن حوالي 4 آلاف دعوى قضائية. هذا الرجل كان ماكرًا وذكيًا بما يكفي ليخرج من كل هذا دون عواقب، ولكن يبدو أن حظ رجل الأعمال الأمريكي الذي قلب واشنطن رأسًا على عقب يوشك أن يكون عاثرا، بينما حسم "جو بايدن" السباق لصالحه.
دون الحماية التي يوفرها له كرسي الرئاسة سيصبح "ترامب" عرضة لعدد ضخم من التحقيقات سواء كفرد أو من خلال شركته. طوال وجوده في منصب الرئاسة وباستخدام صلاحياته التنفيذية كان "ترامب" قادرًا على عرقلة العديد من التحقيقات والدعاوى القضائية بما في ذلك معركة استمرت أكثر من عام حول إقراراته الضريبية.
ما دام ظل "ترامب" رئيسًا للولايات المتحدة، سيبقى في أمان لأن الرئيس الحالي محصن دستوريًا من الملاحقة الجنائية، وهو استنتاج توصلت إليه وزارة العدل في عام 1973 في خضم فضيحة "ووتر جيت". ولكن بمجرد أن يصبح رئيسا سابقا ستزول حصانة "ترامب" ويصبح كأي مدني آخر يمكن توجيه التهم إليه.
قضايا سيعاد فتحها
حصانة "ترامب" من الملاحقة القضائية هي التي منعت المحقق الخاص "روبرت مولر" من توجيه أي اتهامات مباشرة إلى الرئيس الأمريكي أو محاولة مقاضاته رغم أنه قدم في تحقيقاته أمثلة كتابية على كيفية عرقلة "ترامب" للعدالة. ولكن لسوء حظ "ترامب" ترك "مولر" الباب مفتوحًا أمام احتمال مقاضاة "ترامب" بمجرد خروجه من منصبه.
قضية "مولر" ليست هي أسوأ ما ينتظر "ترامب"، حيث إن أخطر تهديد قانوني يواجه "ترامب" هو التحقيق الجنائي الواسع الذي يقوده المدعي العام لمقاطعة مانهاتن "سيراس فانس" في الأعمال المالية لمنظمة ترامب. تشير الملفات المقدمة إلى المحكمة إلى أن التحقيق يدور حول ما إذا كان الرئيس وشركته متورطين في جرائم من بينها الاحتيال المصرفي والتهرب الضريبي وتزوير السجلات التجارية.
تمتلئ الإقرارات الضريبية لـ"ترامب" بسيل من المعاملات المشبوهة. فبالإضافة إلى عدم دفعه ضريبة الدخل الفيدرالية في 10 من السنوات الـ15 السابقة على انتخابه، دفع "ترامب" 750 دولارًا فقط سنويًا في عامي 2016 و2017 كضريبة دخل، بينما استرد 72.9 مليون دولار من مصلحة الضرائب في عام 2010 بعد أن قدم أورقًا تثبت تحقيقه خسائر بقيمة مليار دولار.
تخضع المعاملة السابقة بالتحديد حاليًا للتدقيق، وقد تجبر المحكمة "ترامب" على إعادة هذه الأموال بالإضافة إلى الفوائد والغرامات، وهو ما قد يصل بالمبلغ إلى 100 مليون دولار. وتتضمن إقرارات "ترامب" الضريبية ممارسات أخرى مشبوهة من بينها دفعه أكثر من 700 ألف دولار كرسوم استشارية لابنته "إيفانكا" بينما كانت تعمل موظفة بأجر في "منظمة ترامب" وهو ما قلل من دخل "ترامب" الخاضع للضريبة.
هل يصدر "ترامب" عفواً رئاسيًا لنفسه؟
بعد أن أدرك مكتب المدعي العام أنه لن يستطيع بحال توجيه أي اتهام إلى "ترامب" أثناء وجوده في البيت الأبيض، بدأ الرجل في بناء القضية والاستعداد لمرحلة ما بعد ترك "ترامب" لمنصبه. وبينما يتسلم رئاسة البلاد رئيس جديد في يناير القادم ستتحرك قضايا "ترامب" بسرعة كبيرة.
حتى الآن يبدو أنه لا يوجد مفر أمام "ترامب" سوى إصدار عفو رئاسي عن نفسه خلال الشهرين القادمين. عندما كان "نيكسون" في ورطة "ووتر جيت" أشار محاموه إلى أنه لديه السلطة لكي يصدر عفوًا عن نفسه، ولكن حين تمت استشارة وزارة العدل في الأمر، اختلفت مع هذا الرأي من منطلق القاعدة التي تنص على أنه لا يجوز لأي شخص أن يكون قاضيًا في قضيته.
ومع ذلك أشارت المذكرة إلى أن المخرج الوحيد للأمر هو أن يعلن الرئيس عن عدم قدرته مؤقتًا على أداء مهام منصبه، ليصبح حينها نائبه رئيسًا بالنيابة، وبهذه الصفة يمكن للنائب الذي أصبح رئيسًا أن يعفو عن رئيسه الذي يمكنه بعدها الاستقالة أو استئناف عمله كقائد للبلاد. وعلى هذا الأساس يمكن أن يكون مخرج "ترامب" هو أن يستقيل قبل أن تنتهي فترة رئاسته ليصبح بإمكان نائبه "مايك بنس" أن يصدر له عفوًا رئاسيًا.
يشير بعض الخبراء إلى أن واحدا من أبرز السيناريوهات المحتملة يتضمن لجوء "ترامب" إلى افتعال المشاكل خلال الفترة القادمة من خلال الإصرار على عدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات والطعن في شرعيتها مما يعرض الولايات المتحدة لمخاطر جمة، وذلك بغرض الضغط على "بايدن" لعقد صفقة تضمن لـ"ترامب" عدم ملاحقته قضائيًا بعد مغادرته لمنصبه مقابل تسليم السلطة بشكل سلمي.
ولكن هذه الخطة محفوفة بالمخاطر لأكثر من سبب. أولًا لا يملك "بايدن" ولا أي رئيس للولايات المتحدة سلطة العفو عن الجرائم المرتكبة على المستوى المحلي داخل أي ولاية، حيث إن العفو الرئاسي ينطبق فقط على الجرائم الفيدرالية، وهو ما يعني أن أكثر قضية خشاها ترامب وهي القضية التي يقودها المدعي العام لمقاطعة مانهاتن بنيويورك "سيراس فانس" لن يستطيع "بايدن" أن ينقذه منها حتى لو أراد.
ثانيًا، "بايدن" على الأغلب لن يصدر عفوًا عن "ترامب" ليس لأنه يكرهه، ولكن بسبب حسابات سياسية بحتة، حيث إنه يدرك جيدًا أن قرارا مثل ذلك قد يقوض شعبيته ويضره سياسيًا، كما حدث بالضبط مع "فورد" حين عفا عن "نيكسون" وأثار غضب الرأي العام وقتها. دفع "فورد" الثمن غاليًا في انتخابات عام 1976 التي خسرها.
هل يهرب "ترامب" إلى الخارج"؟
في حال استمر "ترامب" في رفض الاعتراف بخسارته فإن الحل الوحيد لهذه الأزمة كما يراه "جو لوكهارت" السكرتير الصحفي للرئيس الأمريكي السابق "بيل كلينتون" أن يقود "بايدن" تسوية على المستوى الوطني يعلن خلالها "ترامب" قبوله بالنتيجة مقابل العفو عنه في كل القضايا بما في ذلك المرفوعة ضده على المستوى المحلي، مشيرًا إلى أنه يمكن إقناع السلطات القانونية في نيويورك بالتسوية إذا رأوا أنها تصب في المصلحة العامة، لأنهم في النهاية سياسيون قبل أن يكونوا محامين.
ما يقترحه "لوكهارت" حدث قبل ذلك في الولايات المتحدة ولكن بصورة مصغرة، وذلك حين وافق المستشار المستقل القائم على تحقيق "مونيكا لوينسكي" على إغلاق القضية مقابل دفعه غرامة قدرها 25 ألف دولار وسحب رخصته كمحام والاعتراف بأنه شهد زورًا تحت القسم. ولكن "لوكهارت" عاد واعترف أن صفقة مثل هذه ستغضب الكثير من الأمريكيين.
لكن بعيدًا عن كل هذا يبدو أن "ترامب" لديه خططه الخاصة للمرحلة القادمة. قبل نحو 3 أسابيع قال "ترامب" أمام حشد من مؤيديه في جورجيا: "هل يمكنكم تخيل لو أنني خسرت؟ ... ماذا سأفعل؟ ربما علي مغادرة البلاد؟".
هل يفعلها "ترامب" ويهرب إلى دول ليس لديها اتفاقية تبادل مجرمين مع الولايات المتحدة؟ مع هذا الرجل يعلم الجميع أن كل شيء وارد... لنتابع معًا ما سيحدث في الأيام القادمة وما ستحمله لنا من مفاجآت، ولكن الطريف هو أن كل هذا لا يحدث في دولة من دول العالم الثالث، وإنما في الولايات المتحدة، قلعة الديمقراطية في العالم وحصنها الحصين!
المصادر: أرقام – ذا نيويوركر – ذا أتلانتيك – واشنطن بوست – سي إن إن
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}