نبض أرقام
10:48 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/11/23
2024/11/22

قصة حزينة .. هل سرق الأمريكيون أنجح عقار في العالم من عالم ياباني؟

2020/10/03 أرقام - خاص

في الثامن والعشرين من نوفمبر 1943 اجتمع لأول مرة كل من الرئيس الأمريكي "فرانكلين روزفلت" ورئيس الوزراء البريطاني "وينستون تشرشل" وزعيم الاتحاد السوفيتي "جوزيف ستالين" في طهران؛ لكي يناقشوا معًا الاستراتيجية الكبرى للحرب العالمية الثانية، وهل ما إذا كان ينبغي على الحلفاء غزو أوروبا الغربية بريًا.
 

 

بعد مناقشات طويلة، جاء موعد العشاء الذي قُدم على مائدته للقادة الثلاثة الكبار شرائح من اللحم والبطاطس. ولكن في تمام العاشرة والنصف مساءً حدث شيء غريب! تغير فجأة لون وجه "روزفلت" وبدأت يداه تهتز بشدة وتسارع تساقط العرق من جميع أنحاء جسده.
 

مرض لا علاج له!
 

على الفور، نُقل الرئيس الأمريكي إلى غرفته، ليتم فحصه من قِبل أطبائه الذين أرجعوا الأعراض الظاهرة عليه إلى معاناته من عسر الهضم، مرت الأزمة بسلام، ولكن على مدار العام التالي استمرت صحة "روزفلت" في التدهور وفقد الكثير من وزنه واستمر على هذه الحال حتى وفاته في الثاني عشر من أبريل 1945؛ إثر نزيف دماغي مفاجئ.
 

لسنوات طويلة كان "روزفلت" يعاني من مرض مزمن بالقلب، وفي ذلك الوقت كان الأطباء يعتقدون أن مرض القلب هو نتيجة حتمية للشيخوخة وليس له سبب وعلاج معروف، لكن لحسن حظ الإنسانية، حفزت وفاة الرجل الأقوى في العالم بمرض القلب دعم الأبحاث المتعلقة بأمراض القلب وكيفية علاجها.
 

في عام 1948 وقع الرئيس الأمريكي "هاري ترومان" على مشروع قانون لإنشاء المعهد القومي للقلب الذي قام بتمويل الأطباء والعلماء ومختبرات الأبحاث والمستشفيات وكل من يبذل جهدًا في دراسة أمراض القلب ويحاول التوصل إلى علاجات لها.
 

 

كما تضمن مشروع القانون تمويل ما أصبحت في النهاية أشهر دراسة طبية في التاريخ وهي "دراسة فرامنجهام للقلب" والتي أشارت نتائجها الأولية في عام 1961 إلى أن ارتفاع الكوليسترول في الدم يزيد من احتمال الإصابة بالنوبات القلبية أو السكتات الدماغية.
 

أشعلت دراسة فرامنجهام الاهتمام العالمي بالكوليسترول، وأطلق الباحثون حول العالم العشرات من الدراسات السريرية لتحديد ما إذا كانت هناك عقاقير جديدة أو عادات غذائية معينة قادرة على خفض نسبة الكوليسترول في الدم، وفي عام 1964 حصل كل من "كونراد بلوخ" و"فيودور لينن" على جائزة نوبل في الطب مناصفة لتعرفهما على تكوين الكوليسترول.
 

ابن المزارع يصل إلى أمريكا
 

بعدها بعامين، وصل إلى الولايات المتحدة شاب يبلغ من العمر 33 عامًا قادمًا من إحدى القرى اليابانية حيث يعمل والده بالزراعة، وكان عازمًا على معرفة المزيد عن هذا العلم الجديد، هذا الشاب الذي يدعى "أكيرا إندو" كان خبيرًا بقسم معالجة الأغذية التابع لشركة "سانكيو" اليابانية.
 

ذهب "إندو" إلى الولايات المتحدة كي ينضم إلى مختبر متخصص بأبحاث الكوليسترول يتبع كلية "ألبرت إينشتاين" للطب بجامعة نيويورك، وما إن وصل حتى انخرط بشدة في أبحاثه الهادفة للتعرف أكثر على الكوليسترول ومحاولة اكتشاف علاج له.
 

 

في إبريل من عام 1971 وبعد آلاف من التجارب المعملية، أذهلت نتيجة إحدى الدراسات التي قام بها "إندو" الأوساط الطبية حول العالم، فقد اكتشف الياباني أن أحد الفطريات الذي لاحظ نموه على نبات الأرز المزروع بمختبر للحبوب في مدينة كيوتو اليابانية قادر على تثبيط عمل إنزيم رئيسي يساهم في تكون الكوليسترول.
 

كان هذا الفطر الذي أسماه "الستاتين" من نفس جنس الفطر المنتج للبنسيلين، ولكنه كان نوعًا مختلفًا، وفي غضون عام نجح "إندو" في استخراج الدواء القادر على خفض الكوليسترول والذي أطلق عليه إسم "إم إل 236 بي" والمعروف الآن باسم "الميفاستاتين".
 

لسوء حظ "إندو" كانت الأوساط العلمية والطبية حول العالم مقتنعة أشد الاقتناع في ذلك الوقت بعدم جدوى الجهود المبذولة لإيجاد علاج قادر على خفض الكوليسترول وذلك على خلفية فشل كل التجارب والأبحاث التي أجريت حول ذلك الشأن تقريبًا، وبتسبب بعض الأدوية الجديدة في وفاة المرضى أثناء اختبارها، فقد الأكاديميون اهتمامهم بالأمر واستسلمت معظم شركات الأدوية.
 

الفئران كادت تقضي على المشروع
 

رغم ذلك أصر "إندو" على عرض النتائج التي توصل إليها في أحد المؤتمرات الطبية، ولكن أصابه الحزن والاكتئاب حين لم يأت أحد تقريبًا إلى المؤتمر للاستماع إليه، وبعدها واجه "إندو" وفريقه ضغوطًا من إدارة شركته وعدد من زملائه الذين شككوا في جدوى تجاربه.
 

توقعًا منه للأسوأ، ناقش "إندو" مع زوجته مدى استعدادها لإعالة الأسرة من دخلها إذا تم طرده من العمل، وهو ما وافقت عليه، وخط "إندو" بيديه استقالته ووضعها في جيبه ليقدمها إلى الشركة متى طلب منه مغادرة العمل. ولكن لحسن حظه لم يطلب منه أبدًا المغادرة وذلك تقديرًا من الشركة لنجاحاته السابقة.
 

ما زاد من الضغوط الواقعة على "إندو" وفريقه هو فشل العقار بشكل ذريع في خفض نسبة الكوليسترول في دم الفئران، في عالم الأدوية، يؤدي غالبًا الفشل في اختبار العقار على الحيوانات إلى إلغاء المشروع البحثي بالكامل.
 

 

ورغم ذلك استمر "إندو" في تجاربه التي وصلت إلى مرحلة حاسمة، سيتم اختبار "الميفاستاتين" هذه المرة على الدجاج بشكل سري ودون موافقة رسمية من الشركة، وكانت نتائج التجارب مذهلة! لقد نجح العقار في خفض نسبة الكوليسترول والدهون الثلاثية في الدجاج بأكثر من النصف، ولم تظهر أي آثار جانبية.
 

لكن لماذا فشل العقار مع الفئران؟ بعد سنوات طويلة اكتشف العلماء أن أغلب الكوليسترول الموجود في دم الفئران هو "الكوليسترول المفيد" (HDL)، وأنه لا يوجد لديها سوى نسبة ضئيلة جدًا من الكوليسترول الضار (LDL) المسبب لأمراض القلب، وبالتالي تعد الفئران خياراً سيئاً لتقييم فاعلية العقاقير المخفضة للكوليسترول.
 

بعد نجاح العقار مع الدجاج بوقت قصير، نجحت أيضاً تجارب "إندو" على القردة والكلاب، وفي الثاني من فبراير 1978 نجح العقار في معالجة فتاة يابانية تبلغ من العمر 18 عاماً مصابة بمرض فرط كوليسترول الدم العائلي بعد أن تمكن من خفض الكوليسترول في دمها بنسبة 30%.
 

فرحة لم تتم
 

سرعان ما جذبت نتائج "الميفاستاتين" اهتمامًا عالميًا كبيرًا، وفي مايو من عام 1980 عقدت في إيطاليا ورشة عمل خاصة حول العقار حضرها 8 من الأطباء الذين أشرفوا على اختباره على المرضى، وفي تلك اللحظة شعر "إندو" بأن القدر قد وقف في صالحه أخيرًا وأن العقار في طريقه للانتشار حول العالم.
 

ولكن الحماس العالمي للميفاستاتين لم يستمر طويلًا، فبعد 3 أشهر من الورشة التي تم عقدها في إيطاليا تلقى "إندو" وفريقه خبرًا سيئًا حملته إليهم نتائج دراسة أجرتها "سانكيو" حول سلامة العقار: اتضح أن حصول الكلاب على جرعات عالية من الميفاستاتين من الممكن أن يسبب لها السرطان.
 

 

كانت هذه الدراسة بمثابة الضربة القاصمة، على الفور، عمدت شركة "سانكيو" إلى إلغاء المشروع البحثي بالكامل وهو ما يعني إلقاء الميفاستاتين بالقمامة، وهو نفس ما فعلته الكثير من الشركات ومراكز الأبحاث المهتمة بالعقار.
 

"إندو" الذي كان يشكك في أن الدراسة التي أجريت على الكلاب معيبة لم يقدر على فعل أي شيء، خصوصًا بعد رفض "سانكيو" مشاركة نتائج الدراسة معه، ليشاهد مشروعه البحثي والجهود التي بذلها هو وفريقه على مدار سنوات تنهار أمام عينيه في لمح البصر لتصبح أثرًا بعد عين، ولم يمنحه أحد حتى الفرصة في التأكد من مدى صحة الدراسة التي تسببت في قتل مشروعه.
 

اكتشاف مفاجئ محاط بالشبهات
 

من المفترض أن هذه كانت نهاية الميفاستاتين، ولكنها لم تكن كذلك، فجأة أعلن برنامج بحثي مواز ترعاه شركة أدوية أمريكية عن اكتشاف عقار بإمكانه خفض الكوليسترول!
 

قبل عامين ونصف من الإعلان على ذلك الإعلان قامت شركة الأدوية الأمريكية الشهيرة "ميرك آند كو" بالاتصال بـ"إندو" وفريقه من أجل دعوتهم للتعاون معًا في العمل على العقار المخفض للكوليسترول بدلًا من التنافس والتشارك في إصداره حال نجاحه، وهو ما وافق عليه اليابانيون الذين سمحوا للأمريكيين بالاطلاع على أكثر البيانات سرية حول مشروع تطوير "الميفاستاتين".
 

بموافقة من "سانكيو" اليابانية لم يقدم فريق "إندو" فقط للأمريكيين عينة من العقار بل شاركوهم أيضًا نتائج تجارب سرية حاسمة كانوا قد قاموا بإجرائها فضلًا عن أدق تفاصيل الكيمياء الحيوية للعقار وفاعليته ودرجة سميته وهي جميعها معلومات لا تقدر بثمن.
 

خلال تلك الفترة، تبادل الجانبان الزيارات حيث قام "إندو" وفريقه بزيارة مختبرات "ميرك" في نيوجيرسي، بينما زار الفريق الأمريكي مختبرات "سانكيو" وكان أعضاؤه حريصين على سؤال اليابانيين على أدق التفاصيل المتعلقة بالعقار، وهي الأسئلة التي كان يجيب عنها اليابانيون بحماس.
 

 

واستمر هذا التعاون قائمًا إلى أن ظهرت فجأة من العدم نتائج التجربة التي أشارت إلى أن "الميفاستاتين" يسبب السرطان للكلاب وهي التجربة التي قتلت مشروع "إندو"، وعلى إثر هذه التجربة أوقفت "ميرك" الأمريكية هي الأخرى مشروعها البحثي، ولكنها عادت لتستأنفه بعد وقت قصير بعد اكتشافها عدم دقة التجربة التي أجرتها "سانكيو" على الكلاب.
 

بعد وقت قصير من استئناف المشروع البحثي، أعلنت "ميرك" اكتشافها عقارًا جديدًا قادرًا على خفض مستوى الكوليسترول في الدم، دون أي إشارة إلى التعاون الذي كان قائمًا بينها وبين "إندو" وفريقه، وهو ما يعني أن ذلك العقار هو نتاج جهودها البحثية الخاصة.
 

لكن المثير للشك حول اكتشاف "ميرك" هما نقطتان رئيسيتان: الأولى هي أن الشركة الأمريكية أعلنت اكتشافها للمادة المثبطة للإنزيم الرئيسي المساهم في تكوين الكوليسترول (الستاتين) بعد أيام قليلة فقط من إطلاقها لمشروعها البحثي في نوفمبر 1978، هذه هي نفس المادة التي استغرق "إندو" وفريقه الياباني سنوات من البحث والدراسة قبل أن ينجحوا في اكتشافها.
 

أما النقطة الثانية في أن العقار الأمريكي يختلف عن العقار الذي طوره "إندو" وفريقه بأربع ذرات فقط!
 

300 مليار دولار من الإيرادات
 

في يوليو من عام 1982 تقدمت "ميرك" بعقارها الذي أسمته "لوفستاتين" إلى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية من أجل ترخيصه، وبدأت الشركة في إجراء مجموعة كبيرة من التجارب السريرية من أجل إثبات فاعلية الدواء، وفي فبراير 1987 أوصت بالإجماع لجنة استشارية تابعة لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية بالموافقة على عقار "ميرك".
 

كانت نتائج التجارب السريرية إيجابية بشكل مذهل، حيث تمكن العقار من تقليل النوبات القلبية والسكتات الدماغية لدى الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع مستوى الكوليسترول في الدم، وسرعان ما أصبح العقار واحدًا من أبرز الإنجازات الطبية في القرن العشرين.
 

بالنسبة لـ"ميرك" كان العقار واحدًا من بين أكثر العقاقير ربحية في تاريخها، حيث تجاوزت مبيعاتها الإجمالية منه حاجز الـ90 مليار دولار، كما حصل عالمان كانا يعملان لصالح الشركة الأمريكية هما "جوزيف جولدشتاين" و"مايكل ستيوارت براون" على جائزة نوبل في الطب عام 1985 لجهودهما في الأبحاث المتعلقة بالكوليسترول.
 


وبعد انتهاء أمد براءة الاختراع التي حصلت عليها "ميرك" من إدارة الأغذية والدواء الأمريكية بدأت شركات أدوية أخرى في تصنيع العقاقير المشتقة من الستاتين تحت أسماء تجارية مختلفة، لتبلغ الإيرادات الإجمالية لها حتى عام 2018 حوالي 300 مليار دولار.
 

على الجانب الآخر نجد أنه حتى يومنا هذا لا يسمع أحد في العالم تقريبًا خارج دائرة متخصصي أمراض القلب عن "إندو" وفريقه وجهودهم التي بذلوها، وهكذا انتهت قصة الياباني الذي لم يحصل لا هو ولا فريقه ولو على دولار من هذه المليارات ولا حتى على التقدير الأدبي المناسب لما أنجزوه للبشرية.
 

 

المصادر: أرقام – إدارة الغذاء والدواء الأمريكية

كتاب: Loonshots: How to Nurture the Crazy Ideas That Win Wars, Cure Diseases, and Transform Industries

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.