خلاف قديم - جديد أثاره مجدداً وباء "كوفيد-19" بشأن عدد ساعات العمل ومدى إمكانية خفضها للتعامل مع الأزمة التي رفعت أعداد العاطلين حول العالم.
وبرز الجدل على السطح مؤخراً من قِبل أكبر نقابة عمالية في ألمانيا "إي جي ميتال" والتي اقترحت خفض أيام العمل إلى أربعة بدلاً من خمسة أسبوعياً، في مسعى لتقليص فقدان الوظائف في صناعة السيارات.
لكن ورغم ثبات نظام العمل طوال نصف القرن الماضي، فإن التاريخ يظهر أن الأمر احتاج سابقاً لحدوث تحولات حادة قبل ظهور تغيرات كبيرة.
تاريخ من الكفاح
كما تسببت الثورة الصناعية التي انطلقت من أوروبا في منتصف القرن الثامن عشر في طفرة إنتاجية واقتصادية غيّرت وجه العالم أجمع، إلا أنها شكّلت صعوبات كبيرة بالنسبة للعمال.
ومع تسارع إنتاج المصانع، كان متوسط يوم العمل يتراوح بين 12 إلى 14 ساعة على مدار ستة أيام أسبوعياً، وفي بعض الحالات كان عدد ساعات العمل يصل إلى 100 ساعة أسبوعياً.
بالطبع ساءت أحوال العمال بشدة في الوقت الذي كانت فيه الحكومات والمصانع ترفع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت العمل والإنتاج".
في 1817 صاغ الناشط البريطاني الشهير في حقوق العمال "روبرت أوين" عبارة تلخص مطالب العمال: "ثماني ساعات للعمل، وثماني ساعات للترفيه، وثماني ساعات راحة".
لكن لم تنجح هذه المطالب محدودة التأثير والصخب في الوصول لآذان صاغية في أوروبا، رغم حدوث تظاهرات تدعو لتحسين ظروف العمل.
ومع انتهاء الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، انتقلت هذه المطالب إلى الأمريكيين الذين طالبوا الكونجرس بإقرار قانون بخفض عدد ساعات العمل إلى ثماني ساعات يومياً، وهو ما قوبل بالرفض.
وفي عام 1867 أقرّت الهيئة التشريعية في "إلينوي" قانوناً بتحديد يوم العمل بثماني ساعات، لكن مع عقبة كبيرة تتمثل في حق صاحب العمل في طلب عدد ساعات أكثر من العامل.
بالطبع لم يشكّل القانون فارقاً يذكر، وهو ما تسبب في انطلاق تظاهرات كبيرة في الأول من مايو ذلك العام في شيكاغو، قبل أن تنتشر في مدن أمريكية وأوروبية أخرى.
بعد عامين فحسب أقر الرئيس الأمريكي الثامن عشر "يوليسيس جرانت" إعلاناً يضمن ثماني ساعات عمل يومياً بنفس الأجر، لكن هذا الحق يقتصر على موظفي الحكومة فقط.
في السنوات التالية نجحت بعض فئات العمال في قطاعات مثل المناجم والطباعة وغيرهما في الحصول على حق العمل لمدة ثماني ساعات يومياً لستة أيام أسبوعياً.
وجاء "هنري فورد" في عام 1926 ليمنح عمال مصنعه حق العمل لمدة 40 ساعة أسبوعياً من خلال خفض عدد أيام العمل إلى خمسة فحسب، في خطوة وصفت بالتاريخية آنذاك.
وبرر "فورد" قراره بالمقولة المأثورة: "لقد حان الوقت لتخليص أنفسنا من فكرة أن وقت الفراع بالنسبة للعمال هو وقت ضائع أو امتياز طبقي".
بالطبع أثار قرار "فورد" حسد باقي فئات العمل وخاصة في شركة السيارات الأخرى "جنرال موتورز"، والتي احتج عمالها مطالبين بنفس الامتياز.
وأخيراً في عام 1940 أقرّ الكونجرس الأمريكي قانوناً يحدد ساعات العمل أسبوعياً بـ40 ساعة، ليصبح التقليد السائد منذ ذلك الحين.
لماذا توقفنا هنا؟
في عام 1930 كتب الاقتصادي الشهير "جون ماينارد كينز" أن جيل أحفاده من المتوقع أن يعمل 3 ساعات يومياً أو ما يعادل 15 ساعة في الأسبوع.
والواقع أن توقع "كينز" لم يكن يخلو من المنطق آنذاك، حيث إن المطالبين بخفض عدد ساعات العمل كانوا يكسبون أرضاً جديدة كل يوم وفي كثير من البلدان.
ومع معاناة العالم من الكساد العظيم، ازداد الاعتقاد في أوساط الاقتصاديين وحتى العامة أن خفض عدد ساعات وأيام العمل سيدفع لزيادة الطلب على العمالة وإنهاء أزمة البطالة التي وصلت إلى نحو ربع القوى العاملة في معظم الاقتصادات الكبرى.
وبالفعل، شهدت السنوات القليلة التالية للأزمة خفض عدد ساعات العمل إلى 40 ساعة أسبوعياً في المتوسط، لكن الأمر توقف عند ذلك الحد ولم يصل لطموحات "كينز" المتفائلة.
ورغم المطالب والتجارب طوال الأعوام الماضية حيال خفض عدد ساعات العمل، فإن تراجع قوة النقابات العمالة والمخاوف المتعلقة بآثار التحول منع تحقيق أي تقدم ملحوظ في هذا الشأن.
بل أنه في بعض الدول النامية لم يصل العمال حتى الآن إلى نظام العمل 40 ساعة أسبوعياً، حيث يصل متوسط ساعات العمل لنحو 50 ساعة أو أكثر.
كما أنه مع ظهور الاقتصاد التشاركي وغيره من نظم العمل غير الرسمية، فإن كثيرًا من الأشخاص غير المنتسبين إلى نقابة أو ممن لا يمتلكون عقود عمل مع الشركات يعملون لعدد ساعات أكثر.
الإنتاجية أم التكلفة؟
نفذت بعض الدول والشركات طوال السنوات الماضية تجارب عملية لتقييم مدى إمكانية تقليص عدد ساعات العمل ورصد الفوائد والعيوب الناتجة عن هذا الأمر.
في السويد مثلاً، أجرت بلدية "جوتنبرج" تجربة لخفض يوم العمل إلى ست ساعات بدلاً من ثمانٍ بالنسبة للممرضات في دار لرعاية المسنين.
التجربة أظهرت فوائد عديدة: ارتفاع الإنتاجية بنحو 65%، تراجع الإجازات المرضية مع تحسن صحة الممرضات، ناهيك عن توفير وظائف جديدة.
وفي مايكروسوفت أيضاً تم عمل تجربة مماثلة في فرع الشركة في طوكيو من خلال إغلاق مقر العمل في أيام الجمعة طوال شهر كامل، مع خفض أوقات الاجتماعات.
وجاءت النتيجة متمثلة في زيادة الإنتاجية بنسبة 40% والتي عبرت عنها بمعدل المبيعات نسبة إلى عدد الموظفين، بالإضافة إلى تراجع استهلاك الكهرباء وغيرها من الموارد الخاصة بالشركة.
هذه التجارب وغيرها أثبتت أن العمل لفترات أقل يزيد من إنتاجية الموظف وسعادته وصحته النفسية والجسدية والوصول إلى التوازن المطلوب بين العمل والحياة الشخصية، ناهيك عن الأثر الإيجابي على البيئة مع تقليص انبعاثات الكربون.
لكن ماذا عن السلبيات؟، الواقع أن خفض عدد ساعات العمل لا يخلو من الآثار الجانبية والتي يظهر في مقدمتها زيادة التكاليف بالنسبة للشركات مع حقيقة أنه يستلزم تعيين موظفين إضافيين للقيام بنفس المهام.
ففي تجربة السويد، تحملت المدينة الصغيرة تكلفة إضافية بنحو 12 مليون كرونة (1.3 مليون دولار).
وحتى بالنسبة لبعض الموظفين، فإنهم يخشون أن العمل لعدد ساعات أقل سوف يجعلهم أكثر كسلاً أو سوف يتسبب في خفض دخلهم الشهري.
لكن مع تفشي وباء "كورونا" وتداعياته على الاقتصاد والعمال، فإن حدوث تغيير في عدد ساعات العمل مستقبلاً يبدو احتمالاً غير مستبعد بالنظر إلى التاريخ الذي أظهر أن الأحداث الكبيرة قادرة على عمل تحولات ضخمة.
المصادر: أرقام –المنتدى الاقتصادي العالمي– سي إن بي سي– بيزنس إنسايدر
دراسة: Working time and the future of work
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}