"أريد ثورة".. هكذا بدأ "جاك ويلش" أول اجتماعاته مع المديرين التنفيذيين لـ"جنرال إليكتريك" في عام 1980 بعد ساعات من نبأ ترقيته ليصبح رئيس الشركة.
ورغم قصة نجاح هذه الثورة التي رفعت الشركة الأمريكية للقمة، فإن الثمن كان باهظاً بالنسبة للآلاف من العمال.
طموح ونجاح
منحت مجلة "فورتشن" في عام 1999 "ويلش" لقب مدير القرن، تقديراً لنجاحه المبهر في إدارة وتغيير "جنرال إلكتريك".
والواقع أن الرجل الذي تعود جذوره لأب كان يعمل سائق قطار تسلق سلم الترقي في الشركة منذ تعيينه مهندساً في وحدة البلاستيك عام 1960 حتى بلوغ مقعد الرجل الأول في المؤسسة بأكملها في 1981.
ومع بداية توليه منصب رئيس "جنرال إليكتريك" حدد هدفاً واضحاً كي يسعى مع الجميع لتحقيقه وهو أن تصبح الشركة هي الأكبر في العالم.
ورغم أن الشركة الأمريكية كانت ناجحة بالفعل وتحتل المرتبة العاشرة في قائمة الأكبر آنذاك، فإن تحقيق هذا الهدف الجديد تطلب من "جاك" إعلان أنه على كل وحدة في "جنرال إليكتريك" أن تكون الأولى أو الثانية في مجالها، وإلا سيتم تصفيتها وبيعها.
وفي أول عامين لـ"ويلش" في منصبه قام ببيع نحو 71 شركة ووحدة تابعة لكنه دخل في 118 مشروعاً أو استحواذاً جديداً، والبوصلة كانت واضحة: التحول أكثر لقطاع الخدمات والتخارج من أي نشاط لا تمتلك فيه الشركة ميزة تنافسية.
وفي عهد "ويلش" خرجت جنرال إليكتريك من أسواق كانت تعمل بها منذ فترة طويلة مثل الأجهزة المنزلية، لكنها دخلت في قطاعات جديدة تماماً مثل التمويل والإعلام والتكنولوجيا الطبية وغيرها.
ومع سياسة تصفية الأعمال الخاسرة أو منخفضة الإنتاجية والربحية والتمرد على كل معايير الإدارة التقليدية وخاصة دعوته المتكررة للمدراء بعبارة "حاربوا البيروقراطية، اكرهوها وأركلوها بعيداً"، تسارعت عملية تدفق الأفكار والإبداع في الشركة.
كان "ويلش" يرى أن الشركات لا تصبح ناجحة بتضخم حجمها ولكن بجعلها أكثر تنافسية من خلال تحرير المديرين من كل القيود لتمكينهم من استحداث مزيد من القيمة.
كما أن سياسة المكافآت عبر خيارات الأسهم وغيرها جعلت "جنرال إليكتريك" إحدى أبرز الشركات التي يرغب الأمريكيون في العمل بها وبالتالي اجتذبت الأفضل في معظم المجالات.
وفي عام 2001 قرر الرجل التقاعد وترك المهمة أخيراً بعد أن أوفى بوعده: لقد أصبحت "جنرال إليكتريك" تتأرجح بين المركزين الأول والثاني في قائمة أكبر الشركات في العالم.
وارتفعت القيمة السوقية للشركة من نحو 14 مليار دولار عند تولي "ويلش" المنصب إلى ما يزيد على 440 مليار دولار إبان مغادرته، كما قفزت الإيرادات بنحو 5 أمثال لتصل إلى 130 مليار دولار.
لكن الأمر لم يخلُ كالعادة من هجوم وانتقادات وجدل من نوع آخر.
جدلية العاطفة والمادة
تركز جانب كبير من اهتمامات "ويلش" في الإدارة على الموظفين، سواء كان فيما يخص كيفية تعيينهم في المقام الأول أو تقييمهم ومعاملتهم وحتى فصلهم.
والكلمة الأخيرة في العبارة السابقة لم تكن مجرد حدث عابر كما تبدو، لكنها شكّلت سياسة واضحة في رحلة "ويلش" لإدارة "جنرال إليكتريك".
وخلال أول 5 سنوات من توليه المنصب، قام "ويلش" بفصل ما يزيد على 118 ألف موظف في "جنرال إليكتريك"، ما جعله هدفاً لغضب الصحافة والتي وصفته بـ"جاك النيترون" نسبة للقنبلة النيوترونية.
ويبرر "جاك" خفض العمالة بقوله: "علينا الحصول على أفضل الموظفين في العالم وعلينا أن ندفع لهم بالقدر نفسه، ولكننا لا نستطيع الاستمرار مع عمال لسنا بحاجة لهم، ينبغي أن نوظف أفضل منهم إذا كنا سنحقق إنتاجية أكبر بعدد موظفين أقل".
وكانت "نيوزويك" أول مجلة تختار في منتصف عام 1982 هذا الوصف لـ"ويلش"، قبل أن ينتشر لاحقاً في الإعلام ومعه ألقاب مثل المدير الأكثر قسوة.
وتعرّض "ويلش" لهجوم ضارٍ من الصحافة والموظفين وحتى بعض الساسة وحكام الولايات الذين اتهموه بالاهتمام بالربح أكثر من الموظفين وبالمباني أكثر من الناس.
لكن ابن عامل القطار لم يكن يرى الأمر بهذا المنظور، لقد أراد بناء شركة قادرة على المنافسة مع اليابانيين وغيرهم بتكلفة أقل مع تكرار مستمر لمقولة "إننا لا نفصل موظفين لكن نلغي وظائف، وبالتالي على بعض الموظفين أن يغادروا".
والواقع أن "جاك" كان يشعر بالمرارة مرتين؛ الأولى لأنه مضطر لإغلاق هذه الأعمال التي لا تحقق أداءً جيداً وفصل هؤلاء الموظفين من أجل نجاح الشركة وقدرتها على المنافسة، والثانية بسبب الهجوم المتواصل والسمعة السيئة التي أصبحت ملتصقة به لفترة طويلة.
ويوضح "ويلش": "تكلفة إصلاح أي شركة بعد وقوع الضرر أكثر إيلاماً بكثير، لقد كنا نمتلك ميزانية جيدة مكنتنا من أن نكون أكثر إنسانية وكرماً مع من يتم فصله من خلال منحهم فترة إشعار كافية ومكافأة خدمة جيدة، والأهم أنك إذا كنت أول من يسرح الموظفين في قطاعك فإنهم سيجدون عملاً آخر بسرعة، لكن إذا انتظرت طويلاً فإنهم سيضمنون مكاناً في طابور البطالة".
معادلة 20 – 70 – 10
الواقع أن سياسة "ويلش" تجاه الموظفين لا تقتصر على فصل الأقل أداءً فحسب، لكنها تقدم وجهاً أكثرعمقاً بالتأكيد.
حيث يرى أن الموظفين هم أكثر أصول الشركة تأثيراً وأهمية في تحقيق النجاح من عدمه، موضحاً ذلك في عبارته: "إذا قمت ببناء أفضل فريق عمل، ستفوز".
ولم يكن لمدير القرن مهام سوى ثلاثة: تخصيص رأس المال، وتقييم الموظفين، وتحويل الأفكار بين أجزاء الشركة.
وكان "النيوترون" يرى أن هناك 3 فئات من الموظفين في أي شركة، الأولى هي فئة المتفوقين الذين يجب أن يُعاملوا مثل النجوم ويتلقوا مكافآت سخية، وهؤلاء يمثلون حوالي 20% من إجمالي العاملين.
ثم فئة الموظفين التقليديين والذين تبلغ نسبتهم من المؤسسة نحو 70%، هؤلاء يمثلون الجانب الأكبر من القوى العاملة ويجب دفعهم عبر التدريب والتحفيز لمزيد من التحسن لدخول قائمة الأفضل أداءً.
وأخيراً يأتي دور الفئة الأقل أداءً والتي توازي 10% من الموظفين، وهؤلاء يجب أن يتم الاستغناء عنهم نهائياً، لكن مع معرفتهم المسبقة بحقيقة وضعهم ومنحهم الفرصة للتحسن أو المغادرة.
ورغم الانتقادات الحادة التي اعتبرت فصل الفئة الأخيرة "عملاً غير إنساني"، فإن "جاك" كان يرى أنه من الضروري أن يخبر المدير موظفيه الأقل أداءً بحقيقة تقييمهم، بل أن عدم حدوث ذلك سيكون في الواقع "غير إنساني".
"تخيل أنك لم تخبر هذا الموظف أنه ضعيف الأداء ويحتاج لمزيد من العمل الدؤوب، تخيل أنك تركته يعمل لسنوات وسنوات بدون أن يضطر للتحسن أو اكتساب مهارات مطلوبة، ثم تحدث الأزمة التي تضطر عندها المؤسسة لفصل هذا الشخص الذي سيخرج إلى سوق العمل أكبر سناً وأقل مهارة وربما يكون لديه التزامات مالية أكبر، هل هذه هي الإنسانية والعاطفة؟، إنها رقة مزيفة".
يقول ويلش: "أي شركة تظن أنها تضمن وظائف العمال تسير نحو حتفها، من يمنح العمل الآمن هم العملاء الراضون عن المنتج والشركة، لا الشركات نفسها".
توفى "جاك ويلش" في مارس 2020 بعد سنوات طويلة من الإدارة والكثير من الأفكار والقرارات والجدل المثار حولهما.
ربما لم تحظ طريقة "ويلش" في الإدارة بالتقدير والقبول من الجميع، لكنها أظهرت نجاحاً لا يمكن التشكيك فيه رغم كل شيء.
المصادر: أرقام – فورتشن – جولف تشانل – واشنطن بوست
كتاب Jack: Straight From the Gut
كتاب Winning
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}