العالم بين كابوسين .. رعب التضخم الجامح أم معضلة انكماش الأسعار مع كورونا؟

2020/08/21 أرقام - خاص

أسئلة واحتمالات وتكهنات كثيرة يثيرها وباء "كورونا" ويصدم بها الاقتصاد العالمي، لعل أبرزها مستقبل المستوى العام للأسعار في عالم ما بعد الأزمة.

 

وتتواصل حدة المناظرة بين القلقين من التضخم (inflation) والمعتقدين بحتمية معضلة الانكماش (deflation) والقلق حيال الخسائر التي يمثلها كل منهما.

 

 

الاحتمال الأول: رعب التضخم الجامح

 

كان التضخم طوال السنوات الماضية يمثل حلماً بعيد المنال بالنسبة للبنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة، والتي فشلت في الوصول للمستهدف رغم كل الجهود.

 

والمقصود هنا بالتضخم هو معدل ارتفاع الأسعار عند مستوى مستهدف يدور غالباً حول 2%، وهو المعدل الذي يعتقد معظم واضعي السياسة النقدية أنه مناسب لدعم النمو الاقتصادي والتشغيل.

 

وارتفاع الأسعار عند هذا المستوى المقبول يقدم الدافع للمستهلكين لزيادة طلبهم على السلع والخدمات ويدعم رغبة المنتجين في توفير المعروض.

 

ورغم تدابير التحفيز الضخمة التي قامت بها البنوك المركزية العالمية في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2009، والمتمثلة في برامج لشراء السندات وخفض معدلات الفائدة وضخ سيولة في الأسواق، فإنها لم تفلح في الوصول بالتضخم للمستهدف.

 

لكن أزمة وباء كورونا استدعت استجابة استثنائية وغير مسبوقة من الحكومات والبنوك المركزية العالمية، ما جعل توقعات عودة التضخم أكثر ترجيحاً بالنسبة للكثيرين.

 

وأثارت هذه التدابير القوية تكهنات كثير من المتابعين بأن التضخم أصبح خطراً قريباً، لكن هذه المرة كان الحديث لا يتعلق بالتضخم الحميد الذي يدعم النمو وإنما الكابوس الذي يهدد القدرة الشرائية للمستهلكين ويدمر القيمة الحقيقية للنقود ويخرب الاقتصاد.

 

ويبرر البعض هذه الرؤية بأنه على المدى القصير كان انكماش الأسعار واقعاً فعلياً بسبب بقاء الناس في المنازل وتراجع الطلب سواء خوفاً من الخروج بسبب تفشي "كوفيد-19" أو لتراجع الدخل الكافي جراء تداعيات الأزمة، لكن التوجه القادم سيكون تسارعاً ملحوظاً للتضخم.

 

وبالفعل، بعد انكماش مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة لمدة 3 أشهر متتالية هذا العام، تحول للارتفاع بنسبة 0.6% في شهري يونيو ويوليو رغم أنه لايزال بعيداً عن المستهدف.

 

"التضخم دائماً وفي كل مكان عبارة عن ظاهرة نقدية"، هذه كلمات الاقتصادي الأمريكي الشهير "ميلتون فريدمان" والتي تم استخدامها مؤخراً للتدليل على الأثر المتوقع لسياسات البنوك المركزية على الأسعار.

 

 

وقام بنك الاحتياطي الفيدرالي بضخ تريليونات الدولارات في الأسواق عبر برامج عديدة للإقراض رفعت ميزانيته العمومية من 4.1 تريليون دولار في نهاية فبراير إلى ما يزيد على 7 تريليونات دولار حالياً.

 

ولم يتوقف الأمر على الفيدرالي، حيث تحركت السياسة المالية أيضاً في نفس الوقت من خلال حزمة تحفيز حكومية بقيمة قاربت ثلاثة تريليونات دولار في مارس، مع توجه لإقرار تدابير جديدة بعد انتهاء آجل الأولى في يوليو الماضي.

 

وحذر بنك مورجان ستانلي أن السياسة النقدية الحادة والاستجابة المالية لآثار وباء كورونا في الولايات المتحدة قد يمهدان الطريق لتسارع التضخم والذي سيعاني الاحتياطي الفيدرالي للتعامل معه.

 

ويرى البنك أن النمو السنوي للمعروض النقدي الأوسع والمتمثل في "إم 2" في الولايات المتحدة تسارع بقوة من أعلى قليلاً من 10% إلى نحو 23% نتيجة جهود السياستين المالية والنقدية لتحفيز الاقتصاد في مواجهة تبعات الوباء.

 

لكن ماذا عن فشل تدابير التحفيز السابقة خلال أزمة 2009 في زيادة معدل التضخم؟، يجيب البنك بأن الإجراءات الحكومية الحالية أكثر حدة بكثير، حيث إنها تضمنت إقراضاً قوياً للشركات المتعثرة وإرسال شيكات نقدية للأسر.

 

كما أن الوضع القوي للبنوك الأمريكية حالياً مقارنة بالأزمة المالية يجعل من المرجح أكثر أن يظل المعروض النقدي عند مستويات مرتفعة.

 

وتعتبر مخاوف التضخم الدافع الأبرز لصعود أسعار المعادن النفيسة مثل الذهب الذي سجل مستوى قياسياً جديداً أعلى 2000 دولار والفضة التي قفزت لأعلى سعر منذ عام 2013.

 

 

وفي تبريره لتوقعات ارتفاع أسعار الذهب لمستويات قياسية قد تصل إلى 3 آلاف دولار، قال بنك أوف أمريكا في تقرير صدر خلال أبريل الماضي إن "الفيدرالي يمكنه طباعة الدولار، لكن لا يمكنه طباعة الذهب"، في إشارة إلى أثر زيادة المعروض النقدي على التضخم وبالتالي خفض القيمة الحقيقية للنقود.

 

الاحتمال الثاني: معضلة انكماش الأسعار

 

إذا كانت وجهة النظر السابقة تبدو منطقية ومحتملة للغاية، فإن الاحتمال المعاكس تماماً لا يقل أهمية أيضاً.

 

ويرى حاملو لواء التحذير من خطر انكماش الأسعار أن كل الطرق تؤدي إلى هذا المسار، رغم إلقاء الحكومات والبنوك المركزية تريليونات الدولار لدعم الاقتصاد والشركات.

 

فأزمة كورونا تسببت في ارتفاع البطالة والتي من غير المتوقع أن تتراجع بسرعة، وبالتالي ستجعل الطلب الاستهلاكي ضعيفاً مع افتقاد الكثيرين للدخل اللازم للإنفاق.

 

كما أن الدعم المقدم للشركات سيجعلها قادرة على التعافي سريعاً وإعادة الإنتاج لمستويات مرتفعة بوتيرة سيفشل الطلب في ملاحقتها، ما يجعل النتيجة المنطقية هي هبوط الأسعار.

 

وعلى جانب التدابير التحفيزية التاريخية، فإن التجارب السابقة للتيسير الكمي أكدت أن ضخ السيولة في الاقتصاد لا يتسبب في تسارع التضخم كما توقع الكثيرون طوال السنوات الماضية.

 

ورغم إقرار البنوك المركزية في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان والمملكة المتحدة برامج للتيسير الكمي وضخ تريليونات من الدولارات، فإنها فشلت جميعاً في الوصول لمستهدف التضخم.

 

وانتهى الأمر بهذه الأموال الضخمة في ميزانيات البنوك التجارية أو تضخيم أسعار الأصول المالية وحتى الحقيقية بداية من الأسهم وحتى العقارات والقطع الفنية وغيرها.

 

 

لكن ربما يتساءل البعض عن سبب القلق من انكماش الأسعار من الأساس، أليس هبوط التكلفة يعتبر أمراً جيداً للمستهلك الذي سيرتفع دخله الحقيقي وبالتبعية رفاهيته؟.

 

الواقع أنه في البيئة الانكماشية يتوقع المستهلكون تراجع الأسعار وبالتالي يؤجلون قراراتهم الشرائية انتظاراً لهذا الانخفاض، وهنا سيقوم المنتجون بخفض الأسعار لجذب المشترين وهو ما سيؤكد وجهة نظر المستهلك وسيدفعه لانتظار مزيد من الهبوط.

 

هذه الدائرة المفرغة تؤدي إلى تراجع الاستهلاك وبالتبعية انخفاض الإنتاج والأرباح وخروج المنتجين من السوق ومعاناة الاقتصاد بصفة عامة، ما يجعل رعب الانكماش ربما أسوأ من خطر التضخم.

 

كما أن معاناة الشركات المستمرة في العمل من تراجع المبيعات والأرباح ستجبرها على تسريح موظفيها ووقف عمليات التعيين، ومع فقدان البعض لوظائفهم أو حتى الخوف من ذلك ستتراجع قرارات الاستهلاك وتستمر الأزمة التي تتغذى ذاتياً.

 

وحتى قبل ضربة الوباء، كانت العلاقة التاريخية بين المعروض النقدي والتضخم تبدو وكأنها أصبحت جزءًا من الماضي في فترة ما بعد أزمة 2009، مع فشل السياسات الاقتصادية في دعم تعافي طلب المستهلكين لمستويات ما قبل الأزمة.

 

ورغم ضخ الفيدرالي وباقي البنوك المركزية الكبرى سيولة ضخمة بعد الأزمة المالية، فإنها تحولت تلقائياً إلى البنوك والأصول المالية وليس لصالح توفير وظائف أو دعم الأجور الحقيقية للعامة.

 

 

وفي حال استمرار تحول التحفيزات الحكومية وأموال البنوك المركزية إلى المصارف والأسواق المالية خلال الأزمة الحالية، فإن التضخم سيكون عنوان الوضع في الأسواق المالية، بينما سيكون الانكماش مصير الأرقام الرسمية التي ترصد الوضع في الاقتصاد الحقيقي.

 

وبالتالي يظل السؤال الأهم في هذا الخلاف: هل ستجد الأموال طريقها لجيوب المستهلكين أم ستظل هائمة فحسب في الأسواق المالية؟.

 

المصادر: أرقام – إي إن جي – دويتشه بنك - فاينانشال تايمز – فورين بولسي – فوربس – ثينك أدفيسور

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.