قالت مجلة فورين بوليسي إنه على الرغم من أن عام 2020م سوف يُذكَر باعتباره عام الأزمة الحقيقية بالنسبة إلى الدول البترولية، نتيجة الانخفاض الحاد في أسعار البترول، الناجم عن التراجع الحاد في الطلب بسبب تفشي وباء كورونا عالمياً، فإن دولة واحدة، على الأقل، من المُرجّح أن تخرج من أزمة وباء كورونا وهي تتمتع بقدر أكبر من القوة على الجانبين الاقتصادي والجيوسياسي؛ وهي المملكة العربية السعودية.
وأوردت المجلة أسباب ذلك بما يلي:
أولاً: برهنت السعودية على أن إمكاناتها المالية قادرة على مواجهة عاصفة مثل هذه، فهي لا تمتلك احتياطات مالية ضخمةً فحسب، بل تمتلك أيضاً قدرة واضحة على الاقتراض، حيث يمكن أن تقترض مبلغاً يصل إلى 58 مليار دولار في عام 2020م، كما يمكن أن تسحب مبلغاً يصل إلى 32 مليار دولار من احتياطاتها المالية الضخمة التي تمكّنها من حماية الاقتصاد والريال المرتبط بالدولار.
ثانياً: بمجرد أن تستقر الأسواق، سوف ينتهي المطاف بالسعودية لأن يكون لديها عائداتٌ بترولية أعلى، ونصيبٌ أكبر من سوق البترول، حيث تشير توقعات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية إلى أن الطلب العالمي على البترول سوف يعود إلى مستوياته، التي كان عليها قبل الجائحة، مع نهاية عام 2020م.
كما تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يكون الطلب، مع نهاية العام، منخفضاً بنسبة تتراوح بين 2 و3 في المائة فقط، عن متوسط الطلب في 2019م، الذي كان 100 مليون برميل يومياً. وإذا طالت الإجراءات المتخذة لاحتواء الفيروس فسيستغرق تعافي الأسواق وقتاً أطول، ولكن معظم السيناريوهات لا تزال تتوقع تعافي الطلب في نهاية المطاف.
ونوهت المجلة إلى أنه يمكن للطلب على البترول أن يشهد انتعاشاً فعلياً إذا قرر عددٌ أكبر من الناس أن السيارات الخاصة تجعلهم يشعرون بالأمان بدرجة أكبر من وسائل المواصلات العامة المزدحمة.
وفي المقابل، سوف تستغرق الإمدادات البترولية وقتاً أطول كي تتعافى، نظراً لخسارة الإنتاج من الآبار المغلقة، وإلغاء الاستثمارات في مصادر الإمداد الجديدة، وتباطؤ ثورة البترول الصخري الأمريكي.
وسيكون من الضروري إغلاق عدد غير مسبوق من آبار البترول المُنتِجة بسبب التخمة التي أفرزها انهيار الأسعار. ومثل هذا الإجراء يُنذر بخطر إلحاق الضرر بالمكامن. ولذلك، فإن بعض هذه المكامن لن يعود إلى العمل مجدداً أبداً، بينما سيستغرق البعض الآخر فترة طويلة، وسيتطلب استثمارات كبيرة لكي يعود إلى الإنتاج مرة أخرى. وتشير توقعات شركة "إنرجي أسبكتس"، إلى احتمال تعرض 4 ملايين برميل، من إمدادات البترول اليومية، لمخاطر الضرر شبه الدائم.
وحتى مع احتمال عدم تحقق أي نمو في الطلب على البترول، فإن من الضروري إضافة 6 ملايين برميل بترول يومياً من مصادر إمداد جديدة في كل عام، من أجل تعويض انخفاض الإنتاج العائد لأسباب طبيعية فحسب.
وفضلاً عن هذا، فقدَ البترول حظوته لدى المستثمرين، الذين باتوا قلقين بشأن العائدات الضعيفة لصناعة البترول، والضغوط السياسية والاجتماعية المتزايدة عليها.
أما صناعة البترول الصخري الأمريكي، بصفة خاصة، فستستغرق سنوات طويلة كي تعود إلى مستوياتها، التي كانت عليها قبل تفشي كورونا.
واستناداً إلى المدة التي سيبقى فيها الطلب على البترول ضعيفاً، فإن من المتوقع لإنتاج البترول الأمريكي أن ينخفض بنسبة 30% عن ذروته، التي بلغها قبل كورونا، والبالغة 13 مليون برميل يومياً.
وفي واقع الأمر، بينما تعمل أزمة فيروس كوفيد-19 على تهيئة الأجواء، في نهاية المطاف، لأسواقٍ بتروليةٍ أكثر صرامةً، وبالتالي أعلى أسعاراً، فإن المملكة العربية السعودية، إلى جانب عدد قليل من الدول الخليجية الأخرى وروسيا، لن تستفيد من ارتفاع الأسعار فحسب، بل إنها، فعلياً، ستجد الفرصة متاحة أمامها لرفع حصتها السوقية، وبيع كميات أكبر من البترول.
ثالثاً: عن طريق تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة، وإعادة ترسيخ مكانتها باعتبارها المنتج المُرجِّح للبترول، تمكنت السعودية من تقوية مركزها الجيوسياسي. حيث اتجهت أنظار كبار المنتجين والمستهلكين أخيراً، إلى السعودية كي تقود أوبك، وكبار المنتجين الآخرين، للتوصل إلى تخفيضات تاريخية في الإنتاج.
وكان اللجوء إلى الرياض هو الخيار الوحيد الحقيقي المتاح أمام صناع السياسات في نهاية المطاف، كما كان الأمر عليه منذ أمدٍ طويل. والسبب في هذا هو أن المملكة ظلت منذ أمد بعيد، الدولة الوحيدة التي كانت على استعداد لأن تحتفظ بقدر معقول من القدرة الإنتاجية الاحتياطية، رُغم التكلفة الكبيرة لهذا، وهو الأمر الذي مكِّنها من تعزيز أو تقليص الإمدادات إلى الأسواق بسرعة كبيرة. هذه الميزة التي تنفرد بها السعودية، والتي أوضحتها مجدداً للعالم، لا تعطي المملكة نفوذاً على أسواق البترول العالمية فحسب، بل تمنحها تأثيراً جيوسياسياً كبيراً أيضاً.
كما أن موسكو تعتمد على الرياض في إدارة أسواق البترول بدرجة أكبر من اعتماد الرياض عليها في هذا الأمر؛ وهو ما يقوّي موقف السعودية في علاقتها مع روسيا.
وبالإضافة إلى هذا، قامت السعودية بتحسين موقفها في واشنطن، وربما تكون قد قوضت، كذلك، خطط المشرعين الأمريكيين لسنِّ تشريع مضاد لمنظمة أوبك.
رابعاً: من الصعب القول بأن منظمة أوبك تعد تكتلاً إنتاجياً ضاراً، في نفس الوقت الذي توسّل فيه البيت الأبيض والمجلس التشريعي الأمريكي إلى المنظمة لكي تتصرف على أساس أنها كذلك، وسوف يضطرون، مرة أخرى، للتوسل إلى الرياض لتمدد تخفيضات الإنتاج، أو تزيدها، خلال الاجتماع المقبل لأوبك بلس في يونيو.
وفي نظرة إلى ما بعد الأزمة الراهنة، سوف ينتهي الأمر بجائحة كورونا معززةً المركز الجيوسياسي للمملكة العربية السعودية، ومُعززةً دورها المحوري في أسواق البترول، ومُرسية القواعد أمام ارتفاع حصتها السوقية وعائداتها البترولية خلال السنوات المقبلة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}