في مايو من عام 1991 ثار الرأي العام البرازيلي بعد كشف عدة صحف محلية من بينها "جورنال دي برازيليا" و"هوفا دو بوفو" و"جورنال دو برازيل" لبعض جوانب خطة سرية كان قد أعدها مجلس الأمن القومي الأمريكي تهدف لتقليل عدد سكان البلاد من خلال تعقيم النساء وذلك من أجل السيطرة على موارد البرازيل الطبيعية.
على الفور فتح الكونجرس البرازيلي تحقيقاً حول الأمر برعاية أكثر من 165 نائباً ممثلين عن كل الأحزاب السياسية الموجودة بالكونجرس. وكانت أولى خطوات هذا التحقيق هي إجبار وزارة الصحة على التحقيق هي الأخرى في الادعاءات التي تتحدث حول حدوث تعقيم شامل للنساء البرازيليات تم بشكل سري.
حققت الحكومة البرازيلية من خلال وزارة الصحة في ادعاءات تعقيم النساء وكانت النتائج صادمة! فمن سوء حظ البرازيليين أنهم اكتشفوا الخطة السرية الأمريكية المسماة "إن إس إس إم 200" (NSSM 200) بعد أكثر من 15 عاماً من البدء في تنفيذها.
وقبل استعراض نتائج التحقيق الحكومي حول نسبة النساء البرازيليات اللاتي تم تعقيمهن، من الضروري الرجوع خطوة إلى الوراء للتعرف على كواليس ظهور الخطة الأمريكية المثيرة للجدل التي تم تنفيذها سراً في 13 بلداً نامياً من بينها دولة عربية.
سري للغاية
في أبريل من عام 1974 وبينما كان العالم يعاني من موجات جفاف جعلت السياسة الزراعية الأمريكية في حالة تأهب تام أرسل وزير الخارجية الأمريكي "هنري كسينجر" مذكرة سرية لمجموعة مختارة من المسؤولين الحكوميين من بينهم وزيرا الدفاع والزراعة ونائب وزير الخارجية، بالإضافة إلى مدير وكالة المخابرات المركزية.
"تداعيات النمو السكاني العالمي على الأمن القومي للولايات المتحدة وعلى مصالحها الخارجية" .. ذلك كان عنوان المذكرة السرية التي تناولت سياسة الغذاء والنمو السكاني والمواد الخام الاستراتيجية، ولإضفاء مزيد من السرية على المذكرة أُطلق عليها اسم بيروقراطي في أروقة واشنطن وهو "إن إس إس 200" وذلك اختصاراً لـ"مذكرة دراسة الأمن القومي 200" (National Security Study Memorandum 200).
خضعت المذكرة لأعلى درجات السرية وذلك لاعتقاد واشنطن بأن نشرها أو تسريبها سيكون مزلزلاً، وظلت المذكرة في الظلام لمدة 15 عاماً إلى أن أجبرت المحكمة في عام 1989 السلطات الأمريكية على نشرها وذلك في إطار دعوى قضائية رفعتها إحدى المنظمات القانونية المرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية.
وجاء القرار الأمريكي بصياغة خطة "إن إس إس إم 200" بعد فشل الولايات المتحدة في إقناع منظمة الأمم المتحدة بتبني سياسات صارمة للحد من عدد السكان في مؤتمر السكان الذي عقد ببوخارست في عام 1974، وذلك على خلفية رفض معظم الدول الشيوعية وكثير من دول آسيا وأمريكا اللاتينية لتلك السياسات.
في ذلك المؤتمر قال السفير "ميجيل أوزوريو الميدا" ممثل البرازيل "إن الانزعاج من النمو السكاني غير المرتبط بالموارد الوطنية على هذا النحو هو أمر غير مقبول".
الموقف المتشدد من قبل البرازيل وغيرها من الدول النامية أقنع الدوائر السياسية الأمريكية بأنهم لن يصلوا إلى مبتغاهم إلا بطرق سرية، وبناءً على أمر أصدره الرئيس "نيكسون" – بإيعاز من رجل الأعمال الأمريكي "جون روكفلر" – قام "هنري كسينجر" بإعداد مذكرة "إن إس إس إم 200".
نظرة على الخطة
بحلول ديسمبر 1974 كان "كسينجر" قد أكمل المذكرة التي تضمنت استنتاجات دقيقة تتعلق بالنمو السكاني والتي كان من بينها العبارة التالية:
يقول كسينجر في المذكرة: "إن العالم يعتمد بشكل متزايد على إمدادات المعادن من البلدان النامية وإذا أدى النمو السكاني المتسارع بتلك البلدان إلى إحباط آفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية فإن عدم الاستقرار الناتج عن ذلك قد يقوض أنشطة التوسع في إنتاج المعادن وهو ما سيؤثر على التدفقات المستدامة من تلك المعادن إلينا".
فكرة "كسينجر" كانت واضحة وهي أن الولايات المتحدة يجب أن تكون في طليعة الدول التي تروج لبرامج الحد من نمو السكان سواء بشكل مباشر أي من خلال جعل برامج الحد من المواليد شرطاً أساسياً للمساعدات الاقتصادية أو بشكل غير مباشر عبر سياسات الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدولي، لكي ينخفض النمو السكاني العالمي بنحو 500 مليون شخص بحلول عام 2000.
كانت سياسة واشنطن باختصار هي أن الزيادة السكانية في البلدان النامية الغنية بالموارد تهدد وصولها إلى احتياجاتها من تلك الموارد، ولذلك عليها أن توقف هذه الزيادة بأي شكل حتى لو لزم الأمر نشر تدابير قسرية للحد من السكان، وفي "إن إس إس إم 200" ذكر الآتي:
"يجب أن تدعم واشنطن الأهداف العامة القادرة على إحداث اختراقات كبيرة في المشاكل الرئيسية التي تعيق تحقيق أهداف مكافحة الخصوبة، على سبيل المثال، إن تطوير وسائل أبسط وأكثر فاعلية لمنع الحمل من خلال البحوث الطبية سيفيد جميع البلدان التي تواجه مشكلة النمو السكاني."
وخلصت المذكرة إلى أنه على المدى الطويل يجب على البلدان النامية تقليص نموها السكاني من خلال جعل التعقيم الطوعي أسهل وسن قوانين تسمح بالإجهاض. كان من الواضح أن الولايات المتحدة جعلت من خفض عدد سكان الدول النامية أولوية صريحة – وإن كانت سرية – للأمن القومي الأمريكي.
قبل أن يتمكن من تنفيذ تلك الخطة، باغت القدر "نيكسون" الذي استقال من منصبه في نوفمبر من عام 1975 على خلفية فضيحة "ووتر جيت". ولكن في نفس الشهر قام الرئيس الأمريكي الجديد ونائب "نيكسون" السابق "جيرالد فورد" باعتماد "إن إس إس إم 200" سياسة رسمية للولايات المتحدة.
20 مليون امرأة!
على الفور تم تطبيق خطة "كسينجر" السرية. وكانت هناك 13 بلداً لها الأولوية في تنفيذ البرامج الأمريكية المتعلقة بمكافحة الخصوبة على اعتبار أن ذلك سيسمح للولايات المتحدة باستغلال موادها الخام، وهذه البلدان هي: مصر والهند وبنجلاديش وباكستان ونيجيريا والمكسيك وإندونيسيا والبرازيل والفلبين وتايلاند وتركيا وإثيوبيا وكولومبيا.
خلال السنوات الثلاثين اللاحقة، خضعت هذه البلدان لتغييرات جذرية في معدلات الخصوبة، ومعظمها لم يدرك ما كان يحدث إلا بعد فوات الآوان. مثل البرازيل التي لم تكتشف الأمر إلا بعد نحو 15 عاماً من البدء في تنفيذ الخطة الأمريكية.
في عام 1991 بدأت وزارة الصحة البرازيلية في التحقيق في مزاعم حدوث تعقيم شامل للنساء البرازيليات وذلك بعد انفضاح أمر "إن إس إس إم 200" ونشر عدد من الصحف البرازيلية لأهم بنود مذكرة الأمن القومي الأمريكي السرية حول جهود مكافحة الخصوبة.
صدمت الحكومة البرازيلية حين اكتشفت أن 44% من جميع النساء البرازيليات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 14 و55 عاماً تم تعقيمهن بشكل دائم. وأن معظم النساء الأكبر سناً تم تعقيمهن عندما بدأ تنفيذ الخطة الأمريكية في منتصف السبعينيات.
وجدت الحكومة أن التعقيم تم بواسطة مجموعة متنوعة من المنظمات والوكالات الأجنبية في معظمها مثل "الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة" وصندوق "باثفايندر" الأمريكي ورابطة وسائل منع الحمل الجراحي التطوعي ومنظمة "فاميلي هيلث" وأن جميع البرامج التي نفذتها تلك المنظمات كانت برعاية وتوجيه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID).
أهم هذه الوكالات هي وكالة "بينفام" التابعة للاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة والتي كانت مسؤولة بشكل مباشر عن عمليات التعقيم الجماعية في البرازيل وخاصة في شمال شرق البلاد الفقير، وربما ليس من قبيل المصادفة إشارة خطة "إن إس إس إم 200" إلى الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة جنباً إلى جنب مع صندوق السكان التابع للأمم المتحدة باعتبارها الوسيلة المثالية لتنفيذ سياستها السكانية.
بسبب نتائج تحقيقها الصادمة ثارت الحكومة البرازيلية واحتجت لدى الوكالة الأمريكية على أن برامج التعقيم أصبحت "ساحقة وغير ضرورية" لتفيق فجأة بعد أن كانت في البداية مقتنعة بأن تلك البرامج من شأنها أن تعزز من النمو الاقتصادي وتخفيف وطأة الفقر.
من بين التفاصيل الصادمة التي اكتشفتها وزارة الصحة هو أنه في إطار هذه البرامج تم تعقيم ما يصل إلى 90% من جميع النساء البرازيليات المنحدرات من أصل إفريقي، الأمر الذي من شأنه القضاء على أجيال قادمة في دولة يحتل عدد سكانها السود المرتبة الثانية بعد نيجيريا؛ فقد كان ما يقرب من نصف سكان البرازيل البالغ عددهم 154 مليون نسمة في الثمانينيات من أصل إفريقي.
أدى التطبيق الخفي للسياسة الإمبريالية الأمريكية إلى التعقيم غير القانوني لأكثر من 20 مليون امرأة في سن الإنجاب وذلك وفقاً لما صرح به وزير الصحة البرازيلي "ألسيني جويرا" في ذلك الوقت، والذي أشار أيضاً إلى أن هذا الانخفاض المفاجئ في معدل الخصوبة سلب البلاد 30 مليون نسمة وهو ما كان من شأنه أن يجعل عدد سكان البرازيل يتجاوز الـ200 مليون بحلول عام 2000.
المصادر: أرقام – مذكرة " NSSM200" – دراسة " BraZil yields to the malthusian lobby" – دراسة " Politics and Female Sterilization in Northeast Brazil" كتاب "Seeds of destruction"
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}