نبض أرقام
11:35 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/12/04
2024/12/03

السرقة الكبرى للحبوب .. كيف خدع الروس الأمريكيين؟

2020/03/28 أرقام - خاص

في أغسطس من عام 1972 تفاجأ اليابانيون والأوروبيون وغيرهم من مستوردي الحبوب الأمريكية بأنه لا يوجد لدى الولايات المتحدة ما يكفي لتغطية احتياجاتهم من الحبوب والتي يشترونها منها كل عام، وهو ما أصابهم بحالة من الذعر.


 

والكوميديا السوداء هي أن الحكومة الأمريكية نفسها لم تكن على دراية بالأمر وفوجئت مثل عملائها بأنه لا يوجد لديها ما يكفي من الحبوب لتلبية طلبات المستوردين لتجد نفسها بين خيارين أحلاهما مر. فإما أن تلبي طلبات المستوردين على حساب احتياجاتها المحلية وإما أن تخسر حصصها السوقية لصالح منتجين آخرين.

 

لكن أين ذهب المحصول الأمريكي؟ ببساطة، وضع السوفييت أيديهم على جزء كبير منه في خطة من الخداع الاستراتيجي تم تنفيذها تحت سمع وبصر الأمريكيين الذين لم يستوعبوا ما حدث إلا بعد فوات الأوان.

 

السوفييت على مائدة الأمريكيين

 

في صيف عام 1972 وبينما كان يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية في نوفمبر أراد الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" تعزيز شعبيته لدى المزارعين الأمريكيين. في ذلك الوقت كان الجميع بما في ذلك رابطة منتجي الذرة الرفيعة ومعهد بروكينجز يؤيدون رفع مستوى الصادرات الزراعية الأمريكية.

 

أطلق "نيكسون" سلسلة من الاتصالات الدبلوماسية رفيعة المستوى التي تهدف إلى تشجيع الاتحاد السوفييتي باعتباره أحد أكبر مستوردي الحبوب في العالم على شراء الحبوب الأمريكية. وعندما زار رئيس الاتحاد السوفييتي السابق "ليونيد بريجنيف" الولايات المتحدة في مايو 1972 ناقش معه "نيكسون" طبيعة التسهيلات الائتمانية التي قد يوفرها الأمريكيون لهم إذا أرادوا شراء المحصول الأمريكي.


 

في ذلك العام كان لدى السوفييت عجز شديد في الحبوب حيث دمرت الأحوال الجوية السيئة الجزء الأكبر من محاصيلهم، وهو ما ضغط على مخزوناتهم التي استمرت في التناقص إلى أن قاربت على النفاد، ليصبحوا في أمس الحاجة للحبوب الأمريكية. ولكن الأمريكيين على الجهة المقابلة لم يكونوا على دراية بحقيقة الأزمة السوفييتية.

 

لكن ألم يكن بوسع السوفييت تأمين احتياجاتهم من الحبوب عبر استيرادها من العديد من كبار المنتجين حول العالم؟ بالفعل كان من الممكن أن يحدث ذلك، ولكن بتكلفة عالية جداً نظراً لكبر حجم العجز. أخفى السوفييت حقيقة الأزمة عن الجميع حتى يتمكنوا بهدوء من شراء احتياجاتهم بأسعار رخيصة.

 

بعد عدة جولات من المفاوضات خرج وزير الخارجية الأمريكي "هنري كسينجر" في 8 يوليو 1972 ليعلن أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قد وقعا للتو أكبر اتفاق تجاري بين البلدين.

 

الشيطان في التفاصيل.. دهاء المفاوضين الروس

 

بمساعدة 500 مليون دولار من القروض الأمريكية قصيرة الأجل وافق السوفييت على شراء ما قيمته 750 مليون دولار من الحبوب خلال السنوات الثلاث المقبلة. وألزمت الولايات المتحدة الاتحاد السوفييتي بشراء ما لا تقل قيمته عن 200 مليون دولار من الحبوب في السنة الأولى.

 

إدراج الـ200 مليون دولار كحد أدنى وليس كحد أقصى يوضح مدى مهارة المفاوضين الروس الذين لم يكشفوا أبداً ما في جعبتهم لنظرائهم الأمريكيين وأخفوا عنهم احتياجاتهم الحقيقية.

 

من البنود الأخرى التي اشتمل عليها الاتفاق والتي توضح مدى دهاء المفاوضين السوفييت هو أن هذا الاتفاق وعلى عكس الاتفاقات التجارية السابقة بين البلدين سمح للسوفييت بالدخول مباشرة إلى الأسواق المحلية والشراء دون وسيط من كبار المزارعين وليس من الحكومة. بهذه الطريقة أصبحت الحكومة الأمريكية تجهل طبيعة وحجم الصفقات التي يعقدها السوفييت مع المزارعين المحليين.


 

على الفور أرسل الروس مجموعة من التجار إلى الولايات المتحدة لعقد اجتماعات سرية مع كبار المزارعين الأمريكيين في غرف الفنادق بشيكاغو ونيويورك، ليتمكنوا خلال 3 أسابيع فقط من شراء ما قيمته 705 ملايين دولار من الحبوب الأمريكية.

 

بعد مرور شهر واحد من إعلان الاتفاق، اكتشف خبراء وزارة الزراعة الأمريكية أن الروس اشتروا ما قيمته 750 مليون دولار من الحبوب من المزارعين وهو المبلغ الذي كان من المفترض أن يتم توزيعه على ثلاث سنوات. ولكن بالنظر إلى شروط الاتفاق نجد أن الروس لم ينتهكوا أي بند لأنهم التزموا فعلاً بشراء ما لا تقل قيمته عن 200 مليون دولار من الحبوب.

 

المستهلك الأمريكي يدفع الفاتورة

 

شعر المسؤولون الأمريكيون الذين أخطأوا في تقدير الاحتياجات السوفييتية بالصدمة خصوصاً وأن العقود التي أبرمها الروس مع المزارعين في غفلة منهم مثلت حوالي ربع محصول القمح الأمريكي في موسم (1972 – 1973) وكذلك جزءا كبيرا من محصول الذرة وفول الصويا، وجميعها حبوب رئيسية يحتاج إليها السوق المحلي.

 

عندما انتشر خبر المشتريات السوفييتية التي أثرت سلباً على المعروض في السوق المحلي تضاعفت أسعار القمح وزادت أسعار المواد الغذائية بشكل حاد كما ارتفعت أسعار حبوب الأعلاف ومن ورائها أسعار اللحوم. ولأن السوفييت اشتروا مبكراً وبأسعار منخفضة تحمل المستهلك الأمريكي بدلاً من الروسي هذه الزيادة.


 

وصلت أسعار الحبوب في شيكاغو إلى أعلى مستوى لها في 125 عاماً. وارتفع سعر فول الصويا من 3.31 دولار للبوشل قبل 10 أشهر إلى 12.9 دولار للبوشل. ولذلك اضطر "نيكسون" لفرض ضوابط على تصدير فول الصويا للسيطرة على سعره في السوق المحلي.

 

المشتريات الروسية لم تكن كبيرة بما يكفي لخلق أزمة كبيرة، ولكن كان لها تأثير الصدمة على الدول المستوردة خاصة وأن اثنين من كبار مصدري القمح في العالم وهما كندا وأستراليا كانا يعانيان في ذلك الوقت نقصا شديدا في القمح المتاح للتصدير.

 

تسببت تلك الحادثة التي يطلق عليها الأمريكيون اسم (Great Grain Robbery) أو "السرقة الكبرى للحبوب" في تعزيز شعور العداء الذي يكنه جزء كبير من الشعب الأمريكي للسوفييت، وخسر "هنري كسينجر" الذي أشرف على المفاوضات رهانه على أن يصبح ذلك الاتفاق وسيلة تعزيز الوفاق السياسي الأمريكي السوفييتي.

 

 

المصادر: أرقام – نيويورك تايمز - هارفارد كريمسون – بيزنيس انسايدر

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.