"تقضي الإدارة العليا للبنك الدولي في جلسات التشاور والحوار مع الحكومة الأمريكية وقتاً أطول بكثير مما تقضيه مع أي من الدول الأخرى الأعضاء بالبنك. وفي السنوات الأولى للبنك كان من الصعب التمييز بين مواقفه ومواقف الحكومة الأمريكية".
العبارة السابقة ذكرها أستاذ العلوم السياسية "ديفيش كابور" في كتابه "البنك الدولي: سنواته الخمسون الأولى" على لسان "كاثرين جوين" في معرض استعراضها لمدى سيطرة الحكومة الأمريكية على قرار البنك الدولي وتحكمها في حجم القروض وهوية من يحصل عليها.
تشيلي .. لن تحصل ولو على دولار واحد
عقب انتخاب "سلفادور أليندي" رئيساً لتشيلي في عام 1969 وقيام تحالف الوحدة الشعبية اليساري بتشكيل الحكومة قام البنك الدولي على إثر ضغوط من الولايات المتحدة بتعليق قروضه إلى تشيلي في الفترة ما بين عامي 1970 و1973، وذلك بحسب ما ذكره المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية البلجيكي "إيريك توسان" في كتابه "البنك الدولي: انقلاب لا ينتهي".
في هذه الواقعة كان موقف كلٍّ من البنك والحكومة الأمريكية متعارضين غير أن واشنطن تمكنت في نهاية المطاف من إجبار إدارة البنك على تعديل موقفها ليتماشى مع موقف الحكومة الأمريكية.
فعلى الرغم من أن إدارة البنك الدولي كانت ترى في ذلك الوقت أن تشيلي مستوفية كل الشروط التي تجعلها جديرة بالحصول على القروض إلا أن حكومة الولايات المتحدة كان لها رأيٌ آخر. ببساطة أراد الأمريكيون عدم منح ولو دولاراً واحداً لحكومة "سلفادور أليندي" أول رئيس دولة في أمريكا اللاتينية ذي خلفية ماركسية ينتخب بشكل ديموقراطي.
جاءت ضغوط الولايات المتحدة على البنك لعدم إقراض تشيلي على خلفية عزم "أليندي" تأميم قطاع تعدين النحاس -القطاع الاقتصادي الأهم بالبلاد- وتحويل ملكيته بالكامل للدولة.
ولكن رغم تلك الضغوط، أرسل البنك الدولي بعثة إلى سانتياجو، التقى خلالها رئيس البنك الدولي آنذاك "روبرت ماكنامارا" بالرئيس التشيلي وألمح له بأن البنك مستعد لتقديم قروض جديدة لبلاده في حال التزمت الحكومة بإجراءات الإصلاح الاقتصادي المقترحة من قبل البنك.
من غير رأيه؟ البنك أم واشنطن
لم يتوصل البنك وحكومة "أليندي" قط إلى أي اتفاق على الشروط. وطوال سنوات "أليندي" الثلاث في الحكم التي انتهت بحمام دم بعد الانقلاب عليه من قبل جيش البلاد الوطني في سبتمبر 1973 لم تحصل تشيلي على أي قروض جديدة من البنك الدولي.
بعد فترة وجيزة من اغتيال "أليندي" في قصره الرئاسي في سانتياجو واستيلاء العسكريين بزعامة الجنرال "أوغستو بينوشيه" على السلطة استأنف البنك الدولي قروضه إلى تشيلي، ومنح البلاد خطاً ائتمانياً مدته 15 عاماً لتطوير مناجم النحاس.
في تقرير صادر عن وزارة الخزانة الأمريكية في عام 1982، أشارت الوزارة إلى حادثة تعليق قروض تشيلي أثناء فترة حكم "أليندي" باعتبارها مثالاً ناجحاً على قدرة الولايات المتحدة على التأثير على قرارات البنك الدولي.
فعلى الرغم من أن البنك قد توصل إلى اتفاق داخلي من حيث المبدأ على استئناف أنشطة الإقراض لتشيلي في يونيو من عام 1973 -أي قبل شهرين من اغتيال "أليندي"- إلا أن إدارة البنك لم تنظر بشكل رسمي في هذا الاقتراح الداخلي إلا بعد انقلاب سبتمبر الذي أوصل "بيونشيه" للسلطة.
بعد مرور 12 عاماً وتحديداً في أكتوبر 1986 وعلى إثر الاحتجاجات التي اندلعت في الولايات المتحدة ضد الفظائع التي كان يرتكبها نظام "بيونشيه" طلبت الإدارة الأمريكية من البنك تأجيل مناقشة منح القروض للحكومة التشيلية لتجنب المعارضة داخل الكونجرس.
لماذا علقت قروض فيتنام؟
بداية من الستينيات وحتى نهاية حرب فيتنام في عام 1975 شجعت الولايات المتحدة البنك الدولي على منح القروض بانتظام لحكومة فيتنام الجنوبية حليفة واشنطن عبر المؤسسة الدولية للتنمية (IDA) ذراع البنك الدولي المعنية بمساعدة أشد بلدان العالم فقراً.
وبعد انتهاء الحرب وهزيمة أمريكا فيها أرسل البنك الدولي بعثة إلى فيتنام بهدف الوقوف على حقائق الوضع الاقتصادي بالبلاد وبحث مدى جدارتها الائتمانية، لتجد البعثة أن فيتنام مستوفية للشروط اللازمة لتلقي القروض.
فقد رأى "شهيد حسين" مدير بعثة البنك أن الأداء الاقتصادي لفيتنام لم يكن أدنى من ذلك الخاص ببنجلاديش أو باكستان وهما البلدان اللذان حصلا بالفعل على مساعدات من البنك.
ورغم ذلك قامت إدارة البنك الدولي تحت ضغط من الولايات المتحدة بتعليق القروض إلى فيتنام، ووصل الأمر إلى أن رئيس البنك في ذلك الوقت "روبرت ماكنمارا" صرح كذباً في مجلة نيوزويك في العشرين من أغسطس 1979 بأن قرار تعليق القروض يستند إلى تقرير سلبي أعدته بعثة "شهيد حسين".
لكن ادعاء "ماكنمارا" غير صحيح، وهذا ما أوضحته "كاثرين جوين" في كتاب "ديفيش كابور" الذي أشرنا إليه بالأعلى، حيث قالت: "على عكس ما قاله ماكنمارا علنًا في نيوزويك، لم يكن هناك أي أسباب وجيهة لوقف البنك لجميع القروض المقدمة إلى فيتنام".
أخيراً، إن إدارة البنك الدولي تدعي أن قراراتها المتعلقة بمنح أو تعليق الديون تتخذ على أسس وأسباب اقتصادية بحتة، غير أن الكثير من الوقائع والشواهد يشير إلى أن المحدد الأساسي والأهم لسياسات البنك في الإقراض هو مدى رضا الحكومة الأمريكية عن الجهة المقترضة أو الطالبة للمساعدة.
المصادر: أرقام
كتاب: The World Bank: Its First Half Century
كتاب: The World Bank: A Never Ending Coup
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}