في السنوات الأخيرة برز الذكاء الاصطناعي على الساحة باعتباره أبرز مثال على ما يواجهه الاقتصاد الحديث الذي يمر بما يمكن وصفها بـ"المرحلة الانتقالية" بين الثورة الصناعية الثالثة (التي نحياها الآن وتتمثل في ثورة البيانات والمعلومات)، والرابعة والتي لا تزال في طور التشكل وتشمل تكنولوجيا الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد.
ضرورة حتمية
وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للذكاء الاصطناعي بسبب تأثيراته السلبية "المفترضة" على العمالة البشرية إلا أن استخدام الذكاء الاصطناعي ضروري وحيوي للغاية للاقتصاد الرقمي وليس مجرد وسيلة لزيادة الكفاءة، وذلك بسبب الحجم الضخم من المعلومات الذي يستحيل مراقبته بالطرق البشرية التقليدية.
وربما أبرز مثال على ذلك هو موقع "فيسبوك" الذي لديه حوالي 2.45 مليار مستخدم نشط شهريًا ينتجون كمًّا هائلاً جدًا من البيانات.
ففي كل 60 ثانية على "فيسبوك" يتم نشر 932 ألف "بوست" و510 آلاف تعليق و136 ألف صورة، وفقًا لبيانات شركة "زيفوريا" المتخصصة في التسويق الإلكتروني الصادرة في يناير الجاري. وتزداد هذه الأرقام بشدة مع الأحداث السياسية والكوارث الطبيعية وغير ذلك.
وتفرض "فيسبوك" رقابة واسعة للغاية على منصتها التي يستخدمها المتخصص وغير المتخصص بغرض مراعاة قواعد مثل حقوق الملكية والنشر، وتجنب التحريض على العنف أو التمييز العنصري. مراقبة سلوك هذا الكم الهائل من المستخدمين هي مهمة من المستحيل أن ينجزها موظفو "فيسبوك" بأنفسهم، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى استخدام آليات الذكاء الاصطناعي.
هذا الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي، من شأنه أن يغير شكل سوق العمل الذي نعرفه اليوم.
تغييرات عميقة
يتغير سوق العمل بسرعة كبيرة بالفعل خلال السنوات الأخيرة، غير أنه سيكون بعرضة لتغييرات أشد خلال السنوات المقبلة، حيث سيحتاج قرابة 375 مليون عامل إلى تغيير أعمالهم بحلول عام 2030، وربما قبل ذلك في ظل التسارع التكنولوجي. وفي المقابل سيسهم الذكاء الاصطناعي في إضافة 2.7 تريليون دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي في خلال 5 أعوام فحسب.
ولا تبدو المشكلة في اضطرار البعض لتغيير وظائفهم فحسب، بل يشير كتاب "أن تكون بشريًا في عصر الآلة" إلى أن قرابة 800 مليون شخص سيفقدون وظائفهم بحلول عام 2030 بسبب التغيير والميكنة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تحديدًا والتي ستحل محلهم بسبب قدرتها على القيام بما يستطيع البشر القيام به حاليًا.
وبجانب الـ15% من سكان العالم الذين سيفقدون وظائفهم، سيصبح قرابة ثلث السكان عرضة مستمرة لفقدان وظائفهم أيضًا مع ظهور آلات قد تقوم بالزراعة والحرث وحمل البضائع وبيعها وتوصيل الطلبات وفحص جودة السلع وغير ذلك من الوظائف البشرية التقليدية.
كما أن التخوف الأساسي يقوم على استبدال الروبوتات "الذكية" للعمالة اليدوية، وذلك بناء على توقعات اتحاد الروبوتات العالمي لنشر 250 ألف روبوت سنويًا. وفي ضوء تقديرات تشير إلى أن قدرة الروبوت على استبدال 6 وظائف في المتوسط فإن الروبوتات قد تحل محل 1.5 مليون موظف سنويًا على الأقل.
تخوفات "غير مبررة"
أوضحت دراسة لجامعة "يل" أن التهديدات التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على مستقبل العمالة البشرية مبالغ فيها إلى حد ما، مشيرة إلى الاعتماد المتصاعد لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على العمالة الحرة أو المستقلة، حيث تشكل العمالة المستقلة اليوم حوالي 36٪ من القوى العاملة في الولايات المتحدة، بما يمنحها المزيد من المرونة بل والبحث عن دخل أفضل باستمرار.
بل ويمكن زيادة الإنتاجية بمساعدة الذكاء الاصطناعي، بشكل قد يزيد الناتج العالمي بنسبة 25% وذلك بحلول عام 2030، (مقارنة بمستويات 2017) دون حساب بقية العوامل المؤثرة التي قد ترفع هذه النسبة مثل تحسين معدلات الإنتاج أو اكتشاف طرق جديدة لاستغلال المواد الخام من خلال البحث والتطوير.
وعلى الرغم من أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد تتسبب في فقدان كثيرين لوظائفهم إلا أنها على الجانب الآخر ستساهم في خلق وظائف جديدة.
عمال الظل
كُتاب المحتوى وما يعرفون بـ"عمال الظل" ينتعشون في ظل الذكاء الاصطناعي لأنهم يعملون على تغذيته بالمعلومات باستمرار وعلى تطوير الخوارزميات التي يعمل بناء عليها. وبناء على ذلك قد يفقد الاقتصاد وظائف متعلقة بالروبوتات اليدوية ولكنه في المقابل، يتوسع في مثل تلك الوظائف.
كثيرًا ما يبدو النمو في الذكاء الاصطناعي مقترنًا بنمو بعض الوظائف المقترنة به، والتي يصعب تقدير عددها لأن غالبيتها بدوام جزئي أو في إطار الاقتصاد التشاركي، غير أن دولة مثل الهند تقدر نسبتهم بـ15% من العمالة لديها على سبيل المثال، وترتفع النسبة في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
ويشير هذا إلى أنه في الوقت الذي تختفي وظائف لمصلحة الذكاء الاصطناعي، إلا أن وظائف أخرى تظهر، ولا سيما تلك التي تسعى إلى "تعليم" الذكاء الاصطناعي، حيث يشبه الذكاء الاصطناعي الطفل الذي يحتاج لمن يلقنه باستمرار لكي يستطيع التصرف بصورة أفضل، وهي الوظيفة التي يضطلع بها البشر.
في الوقت نفسه تشير تقديرات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن عدد الوظائف التي يخلقها وجود الذكاء الاصطناعي يكاد يفوق عدد الوظائف التي يلغيها، وذلك من خلال نمو وظيفة كتاب المحتوى سنويًا بنسبة تفوق 40% على سبيل المثال.
كما أنه ووفقًا لتقرير لمنتدى الاقتصاد العالمي فإن نسبة الاستبدال حتى في العمالة اليدوية ليست كبيرة للغاية أو مثيرة للقلق. فمن بين 345 مليون شخص يعملون على خطوط الإنتاج في المصانع فإن نسبة من سيفقدون عملهم لا تتعدى 0.5% وهي نسبة ضئيلة للغاية.
ويضيف التقرير أن المشكلة التي تحول دون استبدال الآلات بالبشر في خطوط الإنتاج هي أن الآلات ما زالت غير قادرة حتى في حالة تزويدها ببرامج ذكاء اصطناعي على ابتكار حلول لأي أزمات مستجدة قد تواجهها، بما يحد كثيرًا من نسبة الاستبدال. 88% تقريبا من خطوط الإنتاج تحتاج لـ"متابعة بشرية".
نمو سريع
وتشير دراسة لـ"هارفارد" إلى أن الوظائف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي ستنمو بمعدل 70% أعلى من تلك غير المرتبطة به، ولا سيما مع الاتساع السريع والمستمر للاقتصاد التشاركي الذي يعد الذكاء الاصطناعي بمثابة عموده الفقري.
ولذلك تعتبر الدراسة أن الروبوتات وبرامج الذكاء الاصطناعي لن تؤدي لانكماش عام في الوظائف وإنما ستساهم في ظهور وظائف واختفاء أخرى، أو بالأحرى "انتقال الاقتصاد والوظائف" من جانب لآخر، وهو الأمر الذي يبدو منطقيًا إذا أخذنا بالحسبان أن 50-80% من الوظائف التي سيشغلها الناس عام 2050 ليس لها أي وجود حاليًا.
تشير دراسة صادرة عن البنك الدولي إلى أن أسرع الوظائف نموًا في السنوات العشر المقبلة ستتضمن على الأقل 8 وظائف ذات طبيعة يدوية، ومن بينها مهن متعلقة بالمساعدات الطبية على سبيل المثال في ظل الحاجة الكبيرة إليها، وهو ما يؤكد وجود وظائف متصاعدة حتى في المجالات غير المتعلقة بالتكنولوجيا تمامًا.
ربما لا يوجد جدال حول أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تهدد الكثير من الوظائف، ولكنها في ذات الوقت قادرة على توفير عدد أكبر من الوظائف التي ستتسبب في فقد أصحابها لها. ولا يغير هذا من حقيقة أن هناك حاجة لتكيف العمالة بصورة أسرع مع عصر الذكاء الاصطناعي مما سيتيح الفرصة لجني ثماره دونما التأثر كثيرًا بتبعاته.
المصادر: فوربس - منتدى الاقتصاد العالمي - "سي إن بي سي" - دراسة لـ"هارفارد" - "راند" - شبكة "زيفوريا" - دراسة لجامعة "يل"
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}