في خمسينيات القرن الماضي عبّرت إحدى شركات النفط الأوروبية عن اهتمامها بشراء النفط من حكومة رئيس الوزراء الإيراني الأسبق "محمد مصدق"، وذلك في تحد واضح وصريح لشركات النفط الأنجلو أمريكية التي كانت ما تزال غاضبة من قرار "مصدق" بتأميم صناعة النفط ببلاده.
الشركة صاحبة ذلك القرار كانت شركة إيطالية حكومية جديدة أسسها السياسي الإيطالي الشهير "إنريكو ماتي"، وهي ذات الشركة التي سببت لاحقاً الإزعاج الشديد لتكتل شركات النفط الأنجلو أمريكية التي تعرف باسم "الأخوات السبع". ورغم إدراكه لمخاطر تحدي ذلك التكتل صمم "ماتي" على المضي قدماً في طريقه بعزم لا يلين.
لملمة الجراح
على الرغم من حقيقة أن إيطاليا غادرت دول المحور وانضمت إلى الحلفاء في عام 1943 أي قبل عامين من انتهاء الحرب العالمية الثانية إلا أن القصف الذي تعرضت له البلاد من قبل الحلفاء في أول عامين من الحرب تركها في حالة خراب تام.
في ذلك الوقت تراجعت قيمة الناتج القومي الإجمالي الإيطالي إلى مستوى عام 1911، بينما انخفضت قيمته الحقيقية بنسبة 40% مقارنة مع مستواه في عام 1938. وفي ذات الوقت، ارتفع عدد السكان بشكل كبير على خلفية عودة أعداد كبيرة من الإيطاليين الذين كانوا يقيمون بالمستعمرات الإيطالية المفقودة.
كان شبح المجاعات يلوح في الأفق، ومستوى المعيشة يتراجع بشكل مخيف. وفي ظل هذه الظروف، شرع "إنريكو ماتي" في توفير موارد طاقة محلية من شأنها أن تساعد بلاده على إعادة بناء اقتصادها الذي خربته الحرب.
تجاهل "ماتي" توجيهاً حكومياً يأمره بإعداد شركته التي كان يطلق عليها اختصاراً "إيه جي آي بي" للخصخصة بأسرع وقت ممكن، وشرع في عمليات استكشاف النفط والغاز. وفي عام 1946 أعلنت الشركة سلسلة من الاكتشافات بالقرب من بلدة "كافياجا"، قبل أن تعثر على كميات كبير من النفط والغاز في بلدة كورتيمادجوري عام 1949.
شعرت شركات النفط الأنجلو أمريكية التي كانت تسيطر في ذلك الوقت على سوق الطاقة الإيطالي بالقلق من هذا المنافس الجديد، غير أنها لم تتوقع أنه بإمكانه إحداث أي تغيير في السوق. ولكن ما لم يدركه هؤلاء هو أن "ماتي" كان قومياً إيطالياً عتيداً، وكان مصمماً على تحقيق الاكتفاء الذاتي لبلاده من الطاقة.
كان "ماتي" يدرك أن الأموال التي تدفعها بلاده للشركات الأمريكية والإنجليزية مقابل وارداتها من النفط تستنزف احتياطياتها من النقد الأجنبي وهو ما يمثل المشكلة الأكبر لميزان المدفوعات الإيطالي منذ نهاية الحرب. ولذلك عزم "ماتي" على معالجة هذه المشكلة بجرأة كلفته حياته في نهاية المطاف.
ضد التيار
قام "ماتي" عبر شركته ببناء شبكة من خطوط الأنابيب بطول 2500 ميل لنقل الغاز من بلدة كورتيمادجوري إلى المدن الصناعية في ميلان وتورينو. وبدلاً من إرسال عائدات الشركة إلى خزينة الحكومة استخدمها "ماتي" في تمويل عملية توسعة البنية التحتية لشركته في شمال إيطاليا الصناعي.
كان مصمماً على أنه لا يمكن لبلاده أن تخضع أبداً للأخوات السبع الذين اتهمهم باحتكار الإنتاج والتلاعب بالأسعار وبيع الخام إلى أوروبا المنهكة اقتصادياً بأسعار مبالغ فيها. ولذلك قرر "ماتي" تأمين أقصى قدر ممكن من النفط لبلاده بأقل سعر ممكن.
في فبراير من عام 1953 نجح "ماتي" في الضغط على حكومته لإنشاء شركة طاقة مركزية شبه مستقلة عرفت لاحقاً باسم "إيني"، وتم تعيينه رئيساً لها.
وفق نفس الصيغة التطويرية التي طبقها في "إيه جي آي بي"، استخدم "ماتي" عائدات "إيني" في بناء معامل لتكرير النفط ومصنع عملاق للكيماويات وآخر للمطاط الصناعي، وشراء أسطول من ناقلات النفط لشحن النفط الخاص بـ"إيني"، مما يعني الاستغناء عن خدمات الشركات الأنجلو أمريكية التي كانت تستحوذ على سوق الشحن.
بحلول عام 1958 بلغ إجمالي عائدات مبيعات "إيني" وحدها من النفط والغاز حوالي 75 مليون دولار سنوياً. هذه الأموال تم توفيرها لخزانة الدولة، التي كان من الممكن في ظل سيناريو آخر أن تجد نفسها مضطرة لاستقطاع هذا المبلغ من احتياطياتها الدولارية كي تؤمن احتياجاتها من النفط والغاز.
الانزعاج يتحول إلى كراهية
في وقت مبكر من عام 1954 أصبحت السفارة الأمريكية في روما تشعر بالقلق إزاء أنشطة "ماتي". وفي مذكرة تم إرسالها من روما إلى واشنطن كتب مسؤولو السفارة العبارة التالية: "للمرة الأولى في تاريخ إيطاليا أصبح هناك كيان مملوك للحكومة يتمتع بوضع مالي جيد جداً ولا يسيطر عليه أحد سوى رئيسه."
لكن إذا كانت جهود "ماتي" لتنمية موارد الطاقة داخل إيطاليا قد أزعجت الأخوات السبع وأصحاب المصالح المرتبطين بها فإن جهوده المتزايدة لتأمين إمدادات مستقلة من النفط الخام من الأسواق الخارجية قد حولت الأمر من مجرد انزعاج إلى كراهية شديدة، وعلى الأخص عندما علم الإنجليز والأمريكان تفاصيل العقود التي يوقعها "ماتي".
بعد أقل من عام من الانقلاب الذي تم على حكومة "مصدق" وعودة الشاه إلى حكم إيران، وتحديداً في أبريل من عام 1954، عادت شركات النفط الأمريكية والبريطانية إلى سوق النفط الإيراني واستحوذت معاً على نصيب الأسد.
في ذلك الوقت حاول "ماتي" التواصل مع الأخوات السبع لمناقشة إمكانية السماح لشركته "إيني" بمشاركة صغيرة بأحد الامتيازات بإيران، غير أنه حصل من الأمريكيين والبريطانيين على ما وصفه فيما بعد بالرفض المهين.
بعد تلك الحادثة بشهور قليلة وتحديداً في عام 1955 دخل "ماتي" في مفاوضات ناجحة مع الرئيس المصري الراحل "جمال عبدالناصر". وحصلت "إيني" على حصة في امتياز لتطوير النفط في شبه جزيرة سيناء، وهو الامتياز الذي بلغ حجم إنتاجه في عام 1961 حوالي 2.5 مليون طن سنوياً.
كيف أربك حسابات الجميع؟
تحدي "ماتي" الحقيقي لشركات النفط الأنجلو أمريكية حدث في إيران في عام 1957. ففي ربيع ذلك العام بدأ "ماتي" مفاوضات مع الشاه، انتهت إلى صفقة غير مسبوقة. فبموجب شروط تلك الصفقة منحت "إيني" حق تطوير واكتشاف النفط في منطقة مساحتها حوالي 8800 ميل مربع، على أن تحصل شركة النفط الإيرانية الوطنية على 75% من إجمالي الأرباح بينما تحصل "إيني" على 25%.
أدرك الأمريكيون والبريطانيون أن شروط تلك الصفقة إذا سمح لها بالاكتمال من شأنها أن تزعزع نظام النفط العالمي بأسره. ففي ذلك الوقت كانت القسمة المتعارف عليها هي حصول الحكومة على 50% في مقابل حصول الشركات المطورة على الـ50% الأخرى.
وفي نفس الوقت كانت الأخوات السبع تخشى أنه إذا تم السماح لـ"ماتي" وشركته بالدخول إلى نادي الكبار ومقاسمتهم السوق فإن ذلك سيشجع الشركات الألمانية والبلجيكية وغيرها من الشركات على مزاحمتهم.
لذلك، احتجت الحكومتان الأمريكية والبريطانية بشكل رسمي لدى حكومة الشاه ضد صفقة "ماتي". ولكن بعد تعليقها لفترة من الوقت، وتحديداً في أغسطس من عام 1957 نفذ "ماتي" والإيرانيون اتفاقهم الثوري. وبحلول مارس 1961، رست أول شحنة من النفط الإيراني وأول ثمار هذا الاتفاق على الشوطئ الإيطالية.
داخل إيطاليا نفسها واصل "ماتي" ممارسة الضغط على الأخوات السبع من خلال سياسة الخفض التدريجي لأسعار البنزين في محطات الوقود، وكذلك عن طريق إقناع الحكومة الإيطالية بخفض نسبة ضريبة الاستهلاك العالية المفروضة على البنزين.
كنتيجة مباشرة لهذه السياسة اضطرت الشركات الأنجلو أمريكية العاملة في السوق الإيطالي للاستسلام على مضض، لتنخفض أسعار البنزين في إيطاليا بنسبة 25% في الفترة ما بين عامي 1959 و1961، وهو ما ساهم في تعزيز النهضة الاقتصادية الأولى التي شهدتها إيطاليا في فترة ما بعد الحرب.
لم يكف "ماتي" عن إزعاجهم. توجه "ماتي" إلى البلدان الإفريقية والآسيوية المستقلة حديثاً وعرض عليهم قيام "إيني" ببناء المنشآت النفطية المحلية وتركها لهم بعد ذلك مقابل حصة صغيرة من الإنتاج، وهو العرض الذي رأته هذه البلاد سخياً جداً بالمقارنة مع العقود المبرمة مع الأخوات السبع.
فهذه البلدان الفقيرة وجدت لتوها فرصة لا تجعلها مجرد مصدر بدائي للخام، بل ستساعدها على تطوير صناعة حديثة من عائدات ثروتها النفطية.
مات أم قُتل؟
أكتوبر 1961.. هذا هو تاريخ أكثر خطوات "ماتي" جرأة حتى ذلك الوقت، الخطوة التي ربما كلفته حياته، والتي تسببت في إطلاق صافرات الإنذار في البيت الأبيض وفي 10 شارع دونينج في لندن وكذلك في مقرات الأخوات السبع. ما حدث ببساطة هو أن "إنريكو ماتي" زعيم المقاومة الإيطالي الديمقراطي المسيحي المناهض للشيوعية متواجد في موسكو.
سافر "ماتي" إلى هناك للاتفاق مع السوفييت على بناء شبكة ضخمة من خطوط الأنابيب والتي ستتمكن عند اكتمالها من نقل 15 مليون طن من النفط السوفييتي سنوياً إلى أوروبا الشرقية. بموجب الاتفاق أعطى السوفييت شركة "إيني" عقداً لصناعة تلك الأنابيب.
بعد شهر واحد من بدء "إيني" في تصنيع الأنابيب من خلال شركة الصلب التابعة لها "فينسيدر"، وتحديداً في 27 أكتوبر 1962 تحطمت الطائرة الخاصة التي كانت تقل "ماتي" بعد إقلاعها من صقلية في طريقها إلى ميلان، مما أسفر عن موته عن عمر يناهز الـ56 عاماً.
وصفته "نيويورك تايمز" بعد وفاته بأنه "الشخص الأكثر أهمية في إيطاليا" وصاحب الفضل الأكبر في المعجزة الاقتصادية الإيطالية التي شهدتها البلاد بعد الحرب.
بعد وقت قصير من وقوع الحادثة غادر "توماس كاراميسين" مدير مكتب الاستخبارات الأمريكية في روما إلى الولايات المتحدة دون أي تفسير. ربما كانت صدفة من يدري؟ ولكن المؤكد هو أن رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية في ذلك الوقت "جون ماكون" كان يملك في وقت وفاة ماتي "المشبوهة" ما توازي قيمته مليون دولار من الأسهم بشركة "أويل ستاندرد أوف كاليفورنيا" (شيفرون)، وهي إحدى الأخوات السبع.
كتب "كاراميسين" تقريراً مفصلاً حول مقتل "ماتي" في 28 أكتوبر 1962 أي بعد يوم واحد من الحادثة، وكان من المفترض أن ينشر هذا التقرير على الملأ غير أن الحكومة الأمريكية قامت بحجبه معللة ذلك بأن التقرير يحتوي على تفاصيل حول مسائل تتعلق بالأمن القومي الأمريكي.
المصادر: أرقام - نيويورك تايمز - كتاب:A Century of War: Anglo-American Oil Politics and the New World Order - كتاب:The Prize: The Epic Quest for Oil, Money & Power
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}