لو أن هناك هدفاً واحداً أسمى يتمنى المواطن العادي نجاح صناع السياسات في تحقيقه، فحتمًا سيكون "جعل حياته أفضل" أو بلغة الاقتصاد رفع "مستوى المعيشة" أو "جودتها"، وهو المطلب الذي غالبًا ما يراود الناخبين ويؤرق السياسيين حول العالم.
من الطبيعي أن يطارد المواطنون بفطرتهم آمال الازدياد ثراءً للشعور بالأمان في تلبية متطلبات حياتهم العادية وزيادة مقدار الرفاهية الذي يحظون به، لكن على عكس ما يعتقده البسطاء، فتعزيز الشعور بالرفاهية لا يقتصر على رفع مستوى الدخل أو منح العاملين رواتب أعلى.
صحيح أن هذه الأموال الإضافية ستساعد المواطنين على الإنفاق أكثر وضمان حصولهم على احتياجاتهم الأساسية وحتى غير الأساسية بما يدعم الشعور بالراحة والرفاهية، لكن رغم أن ذلك قد يكون الطريق المباشر لرفع مستوى المعيشة، فإنه ليس كل ما يتعلق بالرفاهية والرضا.
وعلى سبيل المثال، في بلد مثل فنزويلا الذي تفاقمت أزمته الاقتصادية وعصفت زيادة الأسعار بالقدرة الشرائية للعملة المحلية فيه، فإن رفع مستوى الدخل مهما كان كبيرًا، لا يبدو أنه يعزز شعور المواطنين بالرفاهية ولا حتى يزيد مستوى المعيشة، ما داموا غير قادرين على تأمين أساسيات الحياة.
في فنزويلا، رفع الرئيس "نيكولاس مادورو" الحد الأدنى للأجور إلى أربعين ألف بوليفار في أواخر أبريل الماضي من 18 ألفًا، لكن هذا المبلغ يبدو كبيرًا فقط من الناحية الرقمية فقط وليس بالقيمة الحقيقية، إذ يعادل نحو 7.7 دولار أمريكي.
وبعيدًا عن سعر الصرف، فإن الزيادة الكبيرة في الحد الأدنى للأجور والتي تتجاوز 100%، لم تعنِ الكثير في بلد سجل معدل التضخم فيه 1.3 مليون في المائة على أساس سنوي، مع توقعات صندوق النقد ببلوغه 10 ملايين في المائة بنهاية 2019.
المثال الفنزويلي يبدو مركبًا للغاية، لكن السؤال هنا، هل منح المواطنين أموالًا أكثر بكثير يكفي لرفع مستوى معشيتهم وإشعارهم بالرفاهية والأمان الاجتماعي؟ في الواقع هذا يتوقف على تعريف الرفاهية وعوامل مستوى المعيشة.
أموال أكثر لا تساوي حياة أفضل دائمًا
- في حين أن الولايات المتحدة واحدة من البلدان الأعلى دخلًا في العالم، من حيث مؤشري إجمالي وصافي الدخل، فإنها كانت غائبة عن قائمة المناطق الأفضل من حيث جودة المعيشة، ويرجع ذلك لما سبق ذكره، وهو أن الأمر لا يقتصر على ما يجنيه المواطن من مال فقط.
- يعرف المستوى المعيشي بأنه، مقدار الثروة والراحة، وتوافر السلع والاحتياجات الأساسية لفئة اجتماعية واقتصادية معينة أو في منطقة جغرافية محددة، ويشمل عوامل مثل الدخل والناتج المحلي الإجمالي والنمو والاستقرار والجودة البيئية، وهو قريب للغاية إلى مفهوم "نوعية أو جودة الحياة".
- تقول شبكة "يو إس نيوز" التي تصدر تصنيفًا سنويًا حول أفضل البلدان من حيث جودة الحياة (تصدرته كندا تليها السويد ثم الدنمارك هذا العام): الوصول إلى الغذاء والسكن والتعليم الجيد والرعاية الصحية وفرص العمل عوامل أساسية في تقييم الجودة.
- يضيف تقرير الشبكة، أن هناك عوامل أخرى غير ملموسة تدعم جودة الحياة مثل الأمان الوظيفي والاستقرار السياسي وحرية الأفراد، وعمومًا، يتفق علماء الاجتماع على أن الثروة المادية ليست هي العامل الأكثر أهمية في تقييم جودة الحياة.
- رغم التقارب بين المعيارين، فهناك فرق وفقًا لموقع "ذا بالانس" الذي يقول إن المستوى المعيشي لا يلتفت للعوامل غير المادية مثل الحرية والشعور بالرضا، لكن يمكن قياسه بسهولة وفقًا للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (يستبعد آثار التضخم) للفرد مقسومًا على عدد سكانها.
- من الناحية النظرية يبدو ذلك منطقيًا، كلما زاد دخل البلد نما نصيب الفرد من هذا الدخل، لكن السؤال المهم هنا، هل يعني ذلك بالضرورة شعوره بهذا النمو؟ هذا يتوقف على كيفية ترجمة (أو توظيف) هذه الزيادة وتحويلها إلى منافع للمواطنين، وبقول آخر فالأمر مرهون بالإدارة الجيدة للموارد.
كلمة السر: الإنتاجية
- كما أن هناك خلافاً دائراً حول مصداقية مؤشر "الناتج المحلي الإجمالي" الحقيقي في التعبير عن الاقتصاد ورفاهية الشعوب، لم يتفق الجميع حول قياس المستوى المعيشي والعوامل المكونة له، والحقيقة أن هناك مؤشرات مختلفة لقياسه.
- الأقرب لمؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، هو مؤشر البنك الدولي الذي يستند إلى بيانات الناتج القومي الإجمالي (وليس المحلي)، في حين تستخدم الأمم المتحدة مؤشر "التنمية البشرية" الذي يستند إلى عوامل مثل الناتج القومي ومحو الأمية والالتحاق بالمدارس والحياة المتوقعة للمواليد الجدد.
- بغض النظر عن الخلاف، ومع التأكيد على أهمية الإدارة الحكيمة في تحقيق الازدهار والتحسن المعيشي، فلا شك في أن دعم هذه الآمال على المدى الطويل يحتاج إلى انتعاش اقتصادي موازٍ كي يتوافر لدى الحكومة (الإدارة) موارد إضافية تساعد في تطوير عناصر التعليم والصحة والدخل.
- في طريقها لتحسين المستوى المعيشي لمواطنيها، تعمل تايلاند على خطة لتحقيق التنمية المستدامة بحلول عام 2030، وذلك عبر نهج متكامل قائم على زيادة الإنتاجية من خلال التنويع والتطوير التقني والابتكار وزيادة فرص العمل وريادة الأعمال، بحسب موقع منظمة دول التعاون والاقتصاد والتنمية.
- يقول معهد السياسات الاقتصادية (منظمة بحثية أمريكية غير هادفة للربح) في موقعه الإلكتروني: إنتاجية العمالة التي تعد مقياسًا لكمية السلع والخدمات المنتجة في البلد، هي العنصر الأكثر أهمية في تحديد مستوى معيشة البلد، حيث يؤدي نموها إلى تسارع وتيرة ارتفاع معيشة المواطن.
- إذا كانت الإنتاجية الأكبر تعني ارتفاعًا في المستوى المعيشي للمواطنين، وتزامن حدوث ذلك مع وجود إدارة حكيمة للموارد، ستكون النتيجة تحسناً ملحوظاً في جودة حياة المواطنين، لكن من الضروري إعادة التأكيد على أن الدخل الإضافي وحده (دون تحسين الجودة) لن يكون كافيًا لإرضاء رغبات الجماهير.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}