عندما تولى "لي كوان يو"، والذي يعتبره كثيرون مؤسس سنغافورة الحديثة، مقاليد الحكم في البلاد عام 1959 لم يكن دخل الفرد يتجاوز 435 دولارا سنويًا، وعندما قرر ترك السلطة عام 1990 تجاوز دخل الفرد 12700 دولار ليتضاعف بذلك 29 مرة خلال 3 عقود قضاها في السلطة، ليبدأ ومن لحقوه في حكم البلاد ما يوصف عن حق بـ"المعجزة السنغافورية".
 

 

مقومات الصعود للقمة
 

وتصف "الإيكونوميست" ما فعله "كوان يو" ببساطة أنه نقل لبلاده من العالم الثالث إلى العالم الأول في غضون ثلاثين عامًا، وتعتبر "فاينانشيال تايمز" ما فعله رئيس الوزراء الراحل بمثابة المعجزة التي تتفوق حتى على معجزات لدول مجاورة مثل ماليزيا التي ارتفع الدخل فيها 10 أضعاف فقط –مقارنة بـ29 لسنغافورة- خلال العقود الثلاثة نفسها.
 

ويبرز الموقع الجغرافي، المطل على مضيق "ملقا"، والذي تعبره قرابة 40% من التجارة العالمية بمثابة أحد أهم أسباب تحقيق الاقتصاد السنغافوري لطفرات عملاقة، وبدأت أهمية هذا المضيق في الظهور منذ القرن الرابع عشر، ولفت السير البريطاني "ستانفورد رافلرز" الانتباه لأهمية الموقع مع إصراره على وجود بريطاني قوي في الجزيرة النائية الصغيرة في القرن 19.
 

واستفاد "كوان يو" من الموقع بأفضل ما يمكن، فأقامت بلاده موانئ خدمات من الأكبر في العالم، لكي تعبرها التجارة باستمرار، فضلًا عن إقرار سياسات تجارية حرة ساهمت في دخول البضائع من وإلى البلاد بحرية واستفادت بأفضل ما يكون من ميزة الموقع الاستراتيجي على الطريق البحري الأبرز في منطقة جنوب شرق أسيا.
 

وليس الموقع فحسب الذي استفادت منه سنغافورة، فـ"كوان يو" أقر اقتصادًا متنوعًا للغاية بالعديد من السياسات التي اتبعها، ولعل أولها إطلاق حرية الأجانب في التملك وإقامة المشاريع في البلاد، لمعالجة مشكلة نقص رؤوس الأموال في الدولة الفقيرة للغاية إبان فترة حكمه الأولى.
 

مركز مالي وخدمي
 

كما اعترف "كوان يو" بقلة الموارد الطبيعية لجزيرته الصغيرة، وبالتالي قرر الاعتماد على الانفتاح التجاري التام أيضًا، وبدأ في تحويل الجزيرة إلى مركز مالي وتجاري وخدماتي، أكثر من كونها مركزا صناعيا، ليستبق بذلك توجهًا لاحقًا بعقود على عصره بالانتقال إلى عصر اقتصاد الخدمات، حتى أن المنتدى الاقتصادي العالمي يشبه سنغافورة بـ"سويسرا و"موناكو" الشرق" أي الدولة التي يوجد بها الخدمات المالية والتقنية بصورة كبيرة.
 

 

وأدت سياسات "كوان يو" ومن تبعوه إلى أن تتبوأ بلاده المركز الحادي عشر في قائمة الدول الأعلى في دخل الفرد بحوالي 54 ألف دولار سنويًا، لتسبق دولًا مثل السويد وهولندا  وكندا وألمانيا، وذلك بعد أن كان ترتيبها التاسع عشر بعد المائة في الستينات، بينما تعتبر الأعلى في مستويات الدخل على الإطلاق في منطقة جنوب شرق أسيا وفي القارة الصفراء بالكامل.
 

وأدت سياسات سنغافورة التجارية المنفتحة إلى تحولها إلى إحدى الدول القليلة حول العالم التي تسجل ميزانًا تجاريًا موجبًا، بتصديرها لسلع قيمتها 515 مليار دولار في 2017، واستيرادها لسلع تكلفتها 450 مليار دولار في العام نفسه، وذلك بفعل ميزان تجاري يصب في صالح البلاد في قطاع الخدمات تحديدًا والذي تسجل فيه سنغافورة تفوقًا لافتًا، بميزان تجارة خدمات في صالحها مع اليابان والصين وأستراليا تحديدًا.
 

والملاحظ أن متانة أسس الاقتصاد في سنغافورة وتنوعه أدى لثقة مسؤوليه في قدرته على مواجهة التقلبات والاضطرابات الحالية، مما يبدو في تصريحات البنك المركزي للجزيرة بقوله: "البعض يطالبوننا بتغيير سياستنا النقدية بسبب تنامي السياسات الحمائية واحتمالات تأثيرها علينا، ويبدو أنهم لم يتابعوا رفع توقعات النمو لجزيرتنا من 3.2% سنويًا لعام 2018 إلى 3.9% وذلك على الرغم من تلك التهديدات".
 

تهديدات للنمو
 

وعلى الرغم من الصورة الإيجابية العامة السابقة إلا أن الاقتصاد السنغافوري يواجه بعض التحديات، ولعل التخوف الأهم على الاقتصاد لسنغافورة حقيقة أنه أصبح "اقتصاد عالم أول"، بما في ذلك من مزايا وما عليه من عيوب، ومنها أن أكثر 70% من الدخل القومي للبلاد يتم توليده من قطاع الخدمات بينما تصل مساهمة القطاع الزراعي إلى 0.03% فحسب، وتقل مساهمة القطاع الصناعي عن الربع بقليل، والباقي (حوالي 6%) تعتبره الحكومة "مساهمة مشتركة" بين مختلف القطاعات.
 

وأثبت القطاع الخدمي في الأزمات الاقتصادية الأخيرة، وأحدثها أزمة 2009، أنه سريع التأثر بالأزمات الاقتصادية أكثر من نظيريه الصناعي والزراعي.
 

كما أن في سنغافورة أكبر حجم للاستثمارات الأجنبية مقارنة بالاستثمارات المحلية، حيث تقدر حكومة البلاد حجم استثمارات الأجانب في البلاد بحوالي 1359 مليار دولار، بينها 279 مليار دولار من الولايات المتحدة و100 مليار من هولندا و90 من اليابان. ويبقى لافتًا أن جزر العذراء البريطانية وجزر "كايمان"، لدى كل منها استثمارات مباشرة تفوق 100 مليار دولار في سنغافورة في ظل ما هو معروف من اعتبار تلك الجزر بمثابة ملاذ آمن للأموال غير المشروعة.
 

 

وعلى الرغم من التصريحات الرسمية الواثقة، إلا أن سنغافورة لن تكون من الملاجئ الآمنة للاستثمار وللأموال بشكل عام حال استعار الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، بما يهدد برحيل تلك الاستثمارات الأجنبية، لا سيما في ظل ارتباط أغلبها بالشركات العابرة للقارات التي ستتأثر سلبًا بالمواجهات التجارية.
 

 وبلا شك حققت سنغافورة معجزة اقتصادية بكل المقاييس بنمو قياسي، ولكن هذا لم يخل من "ثمن" دفعته الجزيرة الصغيرة بارتباط نموها بالاقتصاد العالمي والاستثمارات الأجنبية "أكثر مما ينبغي" وهو ما قد يهدد استقرار النمو الاقتصادي باستمرار.

loader Train
loader Train
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.