التكنولوجيا والرأسمالية: هل حان الوقت لإعادة تقييم العلاقة بينهما؟

- في عصرنا الراهن الذي تهيمن فيه التكنولوجيا على مختلف جوانب حياتنا، يتبادر إلى الأذهان سؤال محوري حول الصلة الوثيقة التي تربطها بالرأسمالية، ومدى تأثير هذا التداخل العميق على كل من المجتمع والاقتصاد.

- وفي هذا الإطار تحديدًا، يحلل الكاتب جوناثان سادوفسكي في مؤلفه القيّم "الميكانيكي واللودي: نقد جذري للتكنولوجيا والرأسمالية"، كيفية انصهار التكنولوجيا في صميم البنية الرأسمالية.

- ويؤكد الكاتب حقيقة مفادها أن أي محاولة لتقويض التكنولوجيا تظل مقصورة ما لم تتناول جذورها الاقتصادية الراسخة.

- ويجدر بالذكر هنا أن مصطلح "لودي" يشير في الأصل إلى حركة اجتماعية نشأت في إنجلترا خلال أوائل القرن التاسع عشر.

- احتج أعضاء هذه الحركة، الذين عُرفوا باسم اللوديين، على التحولات التقنية المتسارعة، ولا سيما إدخال الآلات الحديثة في قطاع صناعة النسيج، لاعتقادهم الجازم بأنها تمثل تهديدًا مباشرًا لوظائفهم ومصادر رزقهم.

- أما في العصر الحالي، فقد اكتسبت كلمة "لودي" دلالة مجازية غالبًا ما تُستخدم لوصف الفرد الذي يبدي معارضة أو مقاومة للتكنولوجيا المستجدة أو التطور التكنولوجي بوجه عام.

- وقد يُنظر إليهم في بعض الأحيان على أنهم غير قادرين على التكيف مع التغيير، أو يخشون من الآثار المحتملة للتكنولوجيا على نسيج المجتمع.

فشل النقد التقني التقليدي

- يتسم النهج الذي يتبناه سادوفسكي بمصداقية ووضوح نقدي، إذ يدعو إلى تجاوز التحليلات السطحية التي لا تتعدى تجميلَ ظاهر النظام القائم دون النفاذ إلى صميم بنيته.

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

- وفي هذا السياق، يرى الكاتب أن العديد من الدراسات التي تتناول "أخلاقيات الذكاء الاصطناعي" ليست سوى محاولات شكلية ترمي إلى إصلاح النظام دون مساءلة أسسه الرأسمالية المتجذرة.

- فعوضًا عن التركيز على الأبعاد الجوهرية لاستغلال البيانات وعمليات الأتمتة، تكتفي هذه الدراسات باقتراح تعديلات ظاهرية، مثل تحسين بيانات التدريب أو تعديل الخوارزميات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي، متجاهلةً التساؤل الأساسي عن الغاية من هذه الأدوات، وعن الجهات التي تخدم مصالحها.

التكنولوجيا كأداة لاستدامة الرأسمالية

- تتمحور إحدى الأفكار الجوهرية التي يتناولها الكتاب حول كيفية تعامل شركات التكنولوجيا مع البيانات باعتبارها رأسمالًا، لا مجرد مورد رقمي عابر.

- ففي خضم اقتصاد يهيمن عليه منطق البيانات، باتت هذه الأخيرة تشكل جزءًا لا يتجزأ من آليات التراكم الرأسمالي؛ حيث يجري استخلاصها واستغلالها على نطاق واسع، بصرف النظر عن طبيعتها أو مدى مصداقيتها.

- ويستعين سادوفسكي بمثال شائع لتوضيح هذه الفكرة، ألا وهو الجدل الدائر حول الاستعارة الأنسب لوصف البيانات، سواء أكانت "النفط الرقمي" أم "الذهب العصري".

- ويؤكد هذا النقاش حالة التشوش الذهني السائدة بشأن الدور الذي تضطلع به البيانات في الاقتصاد الحديث.

- بيد أن الأهم من هذه التسميات، كما يوضح المؤلف، هو إدراك حقيقة مفادها أن البيانات، شأنها شأن أي شكل آخر من أشكال رأس المال، يجري تجميعها بوتيرة متسارعة، ليس بغية تحقيق أي منفعة اجتماعية، بل لأن التراكم في حد ذاته ضرورة رأسمالية ملحة.

- فالرأسمالي الذي لا يسارع إلى تجميع البيانات بالوتيرة ذاتها التي ينتهجها منافسوه، إنما يعرض نفسه لخطر التراجع والزوال من معترك المنافسة.

الميكانيكي واللودي: أدوار جديدة في مواجهة الاستغلال الرقمي

- لا يقدم سادوفسكي حلولًا جاهزة لاستبدال النظام القائم، ولكنه يطرح دورين أساسيين لمن يسعون إلى مقاومة هذا التشابك المعقد بين التكنولوجيا والرأسمالية، مستوحيًا ذلك من عنوان كتابه:

- الميكانيكي: وهو الشخص الذي يمتلك فهمًا دقيقًا لكيفية عمل الآلات والتقنيات، والعمليات التي تضطلع بها، وكيفية التحكم فيها أو تعديلها.
 

- اللودي: وهو من يدرك الغاية الجوهرية من وراء هذه التقنيات، والأسباب الكامنة وراء وجودها، والجهات المستفيدة منها، والأهم من ذلك: متى وكيف ينبغي مواجهتها، سواء بتعطيلها أو مصادرتها أو إعادة توجيه مسارها.

- يستعين الكاتب بهذين الدورين كإطار تحليلي لفهم الآليات الكامنة وراء تفكيك البنى التكنولوجية التي تخدم مصالح الرأسمالية، مؤكدًا أن العجز عن مجابهة هذا النظام ليس قدرًا محتومًا، بل هو قصور مكتسب يمكن تجاوزه من خلال وعي نقدي متجدد.

إعادة توجيه النقد: من التنظير إلى الفعل

- يخلص سادوفسكي إلى أن أغلب النقاشات الدائرة حول التكنولوجيا تتوقف عند حدود التحليل النظري، دون أن ترتقي إلى ممارسات فعلية لمواجهة الاستغلال الرقمي.

- فبينما يتصاعد الوعي بالمخاطر المصاحبة للتكنولوجيا - بدءًا من المراقبة الجماعية وصولًا إلى تفكيك أنماط العمل التقليدية عبر الأتمتة - يظل الفعل السياسي المقابل ضعيفًا وغير منظم.

- وهذا ما يفسح المجال لاستمرار التكنولوجيا كأداة طيعة في يد الرأسماليين، بدلًا من أن تكون وسيلة لتحقيق عدالة اجتماعية أوسع نطاقًا.

- في هذا السياق، يشير الكاتب إلى الأهمية القصوى لتطوير استراتيجيات عملية لمقاومة هذه الهياكل، والتي يمكن أن تتضمن ما يلي:

- التشريعات والتدخلات السياسية: وذلك من خلال الضغط لتفعيل قوانين تحدُّ من احتكار البيانات وتنظم استخدام الذكاء الاصطناعي بما يخدم الصالح العام، عوضًا عن تعظيم الأرباح فحسب.
 

- حركات المقاومة العمالية: عبر دعم حقوق العمال المتضررين من الأتمتة، وتطوير نماذج جديدة من العمل الجماعي تضمن حماية الأجور والوظائف.
 

- النماذج البديلة للملكية الرقمية: مثل التعاونيات التقنية، حيث يمتلك المستخدمون والمنظمات غير الربحية البنية التحتية الرقمية، مما يحدُّ من هيمنة الشركات الكبرى عليها.
 

- نشر الوعي الجماهيري وإعادة تصور التكنولوجيا: من خلال تشجيع المجتمعات على فهم التكنولوجيا ليس فقط كأداة تقنية محايدة، بل كقضية سياسية جوهرية تحدد من يمتلك المعرفة والسلطة والثروة.

نحو مقاربة نقدية أكثر جذرية:

- يمثل كتاب "الميكانيكي واللودي" مسعىً جاداًّ لإعادة صياغة النقد التقني، ليصبح أكثر قدرة على التفاعل العميق مع البنية الاقتصادية التي تحكم مسار التكنولوجيا.

- وبينما يستعرض الكتاب طيفًا واسعًا من القضايا المُلحة، ومن بينها دور البيانات وتضاؤل قيمة العمل البشري، فإنه يقدم في جوهره دعوة صريحة لتجاوز النقد السطحي والانطلاق نحو تحليل معمق لطبيعة التكنولوجيا بوصفها أداة فاعلة في خدمة الرأسمالية.

- وإنْ لم يقدم هذا النقد حلولاً جاهزة ومباشرة، فإنه يضع حجر الأساس لإعادة بلورة فهمنا لعلاقتنا بالتكنولوجيا، لا باعتبارها مسألة تقنية بحتة، بل كقضية سياسية واقتصادية تمس صميم النظام الذي نعيش في كنفه.

المصدر: كلية لندن للاقتصاد