في معظم الأحيان تبدو أسواق الأسهم كما لو كانت "عشوائية"، فهي ترتفع في يوم، ثم تهبط في اليوم الذي تليه، بل ويتغير حالها بين الجلسات المختلفة للتداول في اليوم نفسه في كثير من الأحيان، ويحدث أحيانًا بسبب معلومات إيجابية مثلًا أدت لصعود السوق أو أخرى سلبية أدت لتراجعه.

 

إلا أن تراجع السوق وارتفاعه يحدث غالباً بسبب سلوكيات المضاربين، فعندما ينخفض السوق بدرجة ما يجد بعض المتداولين في الأمر فرصة للشراء بالتالي يدخلون إلى السوق ويعيدون إليه قدرا من الحركة والصعود، ثم يحدث العكس حال الارتفاع بالبيع لحصد الأرباح.

 

 

الفائدة وبقاؤها مرتفعة طويلا

 

لكن يبقى هناك اتجاه سائد هو الأهم عن الاتجاه اليومي، ويتعلق بأداء السوق في فترات أطول نسبيًا وليكن بضعة أشهر أو عاما أو أكثر، فهذا هو الأهم والذي تهتم به الأسواق بصورة أكبر وتتأثر به بصورة أعمق لأن تأثيره ليس آنيًا ومؤقتًا مثل تراجع أرباح شركة أو تحقيق مؤسسة لنتائج فاقت التوقعات، فما أبرز العوامل التي تدفع السوق لإدراك أن هناك موجة من الانخفاض -أو الارتفاع- مستمرة وفي سبيلها للاستمرار.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

وعلى سبيل المثال فإنه من بين العوامل المهمة للغاية في التأثير على الاقتصاد بصورة عامة وسوق الأسهم بصورة خاصة هو أسعار الفائدة، وربما يكون هذا هو السبب الرئيسي في هجوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الاحتياطي الفيدرالي باستمرار بدعوى أن هذا الأمر يؤثر سلبيًا على معدلات نمو الاقتصاد وله آثاره السلبية على الأسواق وعلى رأسها سوق الأسهم.

 

وتشير دراسة لـ"بروكينجز" إلى أنه يصعب تحديد نسبة معينة لتراجع الناتج المحلي بسبب ارتفاع نسب الفائدة، غير أنه في 82% من حالات رفع الفائدة تتراجع نسب النمو، بينما تثبت نسبة النمو في 15% وترتفع في 3% فحسب، بما يؤشر لتأثيرها السلبي على الاقتصاد، وخاصة على الشركات التي يتم تداول أسهمها في سوق الأسهم، حيث تكون هذه الشركات عادة هي الأكبر في اقتصاد أي دولة.

 

ويجب التأكيد هنا على أن ما يجب الحذر منه في سوق الأسهم هو بقاء أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة من الزمن، ويمكن إسقاط هذا الأمر على الاقتصاد والسوق الأمريكيين في الوقت الحالي، حيث لم يتأثر السوق الأمريكي مباشرة برفع الفائدة في عام 2022، ولكن ببقائها عند نسب عالية نسبيًا، وصلت إلى 5.5% كان لها آثار سلبية على بيئة الأعمال لا سيما الشركات الكبرى المدرجة في سوق الأسهم.

 

وانخفض مؤشر ستاندرد أند بورز 500 بنسبة 3.4% تقريبًا منذ بداية 2025 وحتى 22 مارس، وهو ما يعود جزئيًا إلى بدء تكشف آثار الفائدة العالية السلبية على السوق، وخاصة مع ظهور مخاوف -قد تتحقق وقد لا تتحقق- لحدوث الركود التضخمي في الولايات المتحدة.

 

 

وفي المقابل، نجد أن قرار سويسرا بخفض سعر الفائدة إلى قيمة سالبة في نهاية عام 1999 أدى إلى ارتفاع سوق الأسهم خلال السنوات الثلاث التالية بنسبة كبيرة بلغت 40%، حيث إن العديد من المواطنين السويسريين الذين لم يكونوا مهتمين بالاستثمار في البورصة وكانوا يحتفظون بأموالهم في صورة سيولة نقدية كمدخرات في البنوك، اضطروا إلى البحث عن بديل للبنوك، التي أصبحت تقتطع جزءًا من مدخراتهم  مما أدى إلى موجة من الدخول لسوق الأسهم دعمت انتعاشه وربما أدت لتضخمه.

 

"دورات التوسع والانكماش

 

ومن الواضح أن الدورات الاقتصادية تلعب دورًا حاسمًا في تكرار الأزمات التي تصيب الأسواق المالية، كما أنها تؤثر أيضًا على فترات انتعاش هذه الأسواق. على سبيل المثال، ارتفع مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بنسبة كبيرة بلغت 195% خلال الفترة الممتدة من أوائل عام 2010 إلى عام 2019، ويعود هذا الارتفاع إلى الدورة التوسعية التي شهدها الاقتصاد الأمريكي في ذلك الوقت، والتي تعتبر من بين أطول الدورات الإيجابية في تاريخ الولايات المتحدة، وقد ساهمت هذه الدورة التوسعية في صعود مستمر لسوق الأسهم خلال تلك الفترة.

 

في المقابل، شهد المؤشر الأمريكي الرئيسي نفسه انخفاضًا حادًا في قيمته، حيث فقد ما يقرب من 50% من قيمته خلال الأزمة المالية العالمية. تزامن هذا الانخفاض مع دخول الاقتصاد في مرحلة انكماش، وهي دورة اقتصادية تتسم بصعوبة بدء مشاريع جديدة وتوسيع المشاريع القائمة. وتثير هذه الدورة تساؤلات حول تأثير انخفاض الإنفاق الاستهلاكي وتراجع معدلات التوظيف على الشركات في مختلف القطاعات.

 

 

من الضروري أن ندرك أن كبار المستثمرين يدركون جيدًا حقيقة مرور الاقتصاد بدورات انكماش، ولذلك، فإنهم يتخذون إجراءات احترازية للتحوط من هذه الدورات، وذلك من خلال الاستثمار في الأسهم الأكثر قوة، وتتميز هذه الأسهم بأنها تنخفض بنسب أقل مقارنة بالأسهم الأخرى خلال فترات الانكماش، كما أنها تستعيد مستوياتها السابقة بسرعة أكبر، وغالبًا ما تتجاوز ما كانت عليه قبل الأزمة، ويمكن تعريف هذه الأسهم بأنها أسهم الشركات التي تتميز بمخاطر منخفضة، ومعدلات مديونية قليلة، وتقارير مالية تتسم بالوضوح والشفافية، حتى إن لم تكن ترتفع بسرعة أو تحقق أرباحًا كبيرة.

 

في هذا السياق، تشير إحدى الدراسات إلى نتيجة لافتة، وهي أنه إذا قام شخص باستثمار مبلغ صغير قدره 100 دولار فقط في شركات مدرجة في مؤشر "ستاندرد آند بورز" في عام 1926، فإن هذا المبلغ كان سيحقق نموًا كبيرًا للغاية ليصل إلى ما يتجاوز 1.264 مليون دولار بحلول عام 2021 بشرط إعادة استثمار الأرباح في السوق بشكل مستمر خلال تلك الفترة، وهذا الرقم الضخم متحقق على الرغم من الأزمات والتقلبات الكبيرة التي شهدها سوق الأسهم الأمريكي على مر السنوات.

 

تحذيرات المؤسسات وتراجع ثقة المستهلك

 

في المقابل، تشير الإحصائيات إلى أن ما يقرب من 90% من حالات انخفاض أسعار الأسهم الأمريكية في الأسواق المالية كانت تسبقها فترة تشهد تراجعًا في مؤشرات ثقة المستهلك. وبناءً على هذه المعطيات، كان لهذا الأمر أيضًا تأثيره السلبي على دفع السوق الأمريكي للتراجع في مارس 2025 من خلال ما كشفت عنه البيانات عن أكبر تراجع في ثقة المستهلك الأمريكي منذ أغسطس 2021، أي قمة أزمة كورونا في الولايات المتحدة، بما أعطى المزيد من التشاؤم في الاقتصاد بشكل عام وسوق الأسهم بشكل خاص.

 

ويجب الانتباه أيضًا إلى التغير في اللهجة في تقارير المؤسسات الدولية، بداية من تلك الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ثم تلك المتخصصة في الاستثمار والأسواق مثل "جي بي مورجان" و"سيتي بنك" وغيرهما، فليس من الضروري أن تؤكد هذه المؤسسات حدث ركود مثلًا في الأسواق ليحذره المتداولون ولكن يكفي أن تجمع كلها على مخاوف من آثار الحروب التجارية مثلًا، لتبدأ الأسواق في تحفظ تدريجي.

 

 

القطاعات الرائدة والصعود المتصل

 

كما أن بداية العلامات المقلقة في القطاعات الرائدة في سوق الأسهم تدفع للحذر أيضًا، ومن ذلك ما حدث في فقاعة "دوت كوم" عندما كان مؤشر "ناسداك" هو القائد لارتفاع السوق الأمريكي، قبل انخفاضه بنسبة 78% عن قمته ليقود سوق الأسهم كلها للانخفاض في ذلك الوقت، وهو ما قد يتكرر أيضًا في الوقت الحالي ولو بنسب أقل مع احتمال تفجر فقاعة الذكاء الاصطناعي.

 

ففي حالة فقاعة دوت كوم لم تلتقط الأسواق وقتها أهم إشارة متعلقة بتباطؤ نمو القطاعات التكنولوجية، وهو تباطؤ نمو إيرادات أو حتى تراجع إيرادات وربحية العديد من الشركات الرائدة في القطاع قبل انفجار الفقاعة، حيث إن الانفجار لا يحدث مفاجئا وتسبقه علامات.

 

ولعل هذا هو ما دفع الأسواق هذه المرة للانتباه، فعلى الرغم من أن شركات التكنولوجيا الأمريكية، والتي لا تزال تقود سوق الأسهم الأمريكي بنسبة كبيرة صعودًا وهبوطًا، سجلت صعودًا في أرباحها وإيراداتها في 2024، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر تسجيل "ميتا" نمو إيرادات بنسبة 21% و"ألفابت" لنمو إيرادات يقارب 14% إلا أن التهديدات الصينية في المجال أصبحت تهدد بنمو أقل في القطاع ككل بما دفع السوق كله لوقفة ترقب انخفضت فيها أسعار غالبية الأسهم التكنولوجية.

 

ومن ضمن أهم المؤشرات التي يرقبها السوق وتحذر من انخفاضه استمرار الارتفاع المتصل فترات طويلة بشكل يفوق النمو التراكمي للدخل الإجمالي المحلي للدولة، فهذا يدفع السوق، لا سيما كبار المتعاملين فيه وذوي الخبرات، إلى الحذر من أن النمو الحالي هو نمو مدفوع بالطلب المستمر وبالاعتقاد العام في ارتفاع السوق وليس بحقائق الاقتصاد ووضع الشركات على الأرض.

 

كل هذه المؤشرات وغيرها تعطي السوق إشارات واضحة على الاتجاه في المستقبل، ولكنها علامات للمستقبل المتوسط وربما الطويل ولا تعين من يسعون للمضاربة والربح السريع، لا سيما أن هذه الفئة تبقى الأكثر تكبدًا للخسائر لأنها لا تلتقط تلك الإشارات التي يفهمها ذوو الخبرة ويتصرفون بناء عليها.

 

المصادر: أرقام- بروكينجز- المنتدى الاقتصادي العالمي- سي.إن.بي.سي-  دراسة “Stock price reaction to news and no-news: drift and reversal after headlines"

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.